القاهرة - أمينة خيري تفجرت السياسة بتقلباتها والأيديولوجيا بتغيراتها والأنثروبولوجيا بابتكاراتها، ووجد المصريون الحياة السياسية وقد باغتتها تصنيفات غير معتادة وتوصيفات غير مألوفة. وبدل سنوات طويلة اعتاد خلالها المصريون نعوت اليميني واليساري والاشتراكي والرأسمالي والإسلامي والشيوعي، بل واللينيني في النسق السياسي، فوجئ المتابعون ببزوغ عصر جديد حيث «الأمنجية» و «الدولجية» بعد خفوت «الإسلامجية» و «الإخوانجية» الذين ساروا على أجساد «الثورجية» ونهلوا من منهل «العسكر».
فبين برلمان جديد عبارة عن كوكتيل ذي توجهات منصهرة انصهاراً لا يسمح بتحديد المعالم أو التحقق من النكهات، وإعلام غريق يصنف الساسة على أساس مصالح غير محددة المنبع وبناء على توجيهات غير معروفة المصدر، ومعارك ساسة فرعية لا علاقة لها بتوجهاتهم السياسية أو برامجهم الانتخابية أو حتى رؤاهم الاقتصادية، لم يجد المتابعون إلا توصيف هؤلاء وأولئك وما بينهما بناء على الانطباع العام والاتجاه العام، ولكن كلاً بحسب انتماءاته وأهوائه.
هوى المشاهدين وانتماء المتابعين يدفعهم حيناً إلى إطلاق توصيف «أمنجي» على بعض الشخصيات العامة، في إشارة إلى تعاون وثيق لها مع جهات أمنية، أو بالأحرى قطاعات بعينها في الجهات الأمنية، حيث تجري حروب الاغتيال المعنوي والقتل السياسي والتشويه الأخلاقي. هؤلاء يطلق عليهم متابعوهم، سواء من المحبين أو الكارهين لفظ «أمنجية»، وتتراوح درجات «أمنجيتهم» بين محاولة التمسح بالأمن والتقرب من الأجهزة السيادية بعرض خدماتهم التشهيرية والقيام بأدوار إعلامية ذات أهداف إقصائية تحولوا إلى فئة، لكن يجري استخدام التوصيف أحياناً على سبيل تبادل اتهامات الخيانة وإلقاء ادعاء العمالة.
فـ «الأمنجي» في عرف معارضي النظام يكون أحياناً «نموذجاً للشخصيات الوطنية» في مفهوم محبي النظام أو مؤيديه لما يقوم به من «خدمات» للوطن. كذلك الحال في ما يختص بتوصيف «دولجي»، وهو اللفظ الأحدث في عالم المصطلحات المصرية السياسية الشعبية. و «الدولجي» لفظ يستخدمه نوعان من المصريين: الأول هو المعارض للنظام القائم من الناشطين العنكبوتيين والمثقفين الكامنين والساسة الخاسرين، والثاني المنتمي إلى أي من جماعات الإسلام السياسي أو تنظيماته.
والمقصود باللفظ هو كل من يردد كلمة «الدولة» بنوع من التبجيل الزائد، أو الاحترام المفرط، أو الانتماء المتمادي. فالمعارضون غير الإسلاميين بأنواعهم يسخرون من حجة الحفاظ على الدولة للتغاضي عن أخطاء الحكم، وشماعة حماية مؤسساتها لتأجيل الحساب، وذريعة الإبقاء عليها خوفاً من اللحاق بدول الجوار. أما المنتمون إلى جماعات الإسلام السياسي بأنواعها فقد لحقوا بركب مستخدمي لفظ «دولجي» باعتباره شتيمة لكل من يؤيد «الانقلاب» ويرفض الخروج على الحاكم في الذكرى المقبلة للثورة ويجاهر بإعلان الحب والتأييد للرئيس عبدالفتاح السيسي.
المنعوتون على سبيل الوصمة بـ «الدولجية» يردون على من يناصبهم العداء والسخرية من قاموس المصطلحات نفسه، فيعيدون تدوير ألفاظ «ثورجي» و «إسلامجي» و «إخوانجي» التي جرى استخدامها عبر السنوات الخمس الماضية بالترتيب، وذلك بدءاً باندلاع الثورة، مروراً بموجات ركوبها العاتية، وانتهاء بثبوت الرؤية بتقلد جماعة «الإخوان المسلمين» مقاليد الحكم. إلا أن هذه الاستخدامات كانت تجري على استحياء في الغرف المغلقة والجلسات الخاصة التي تجمع المصريين من غير القادرين على المجاهرة بالعداء أو الرفض للثورة. وبما أن هذه الغرف أخذت في التزايد وتلك الجلسات دأبت على التكاثر، فقد زادت الأعداد في شكل شجّع أصحابها على المجاهرة.
وتحفل ساحات الحرب الإلكترونية والتراشقات اللفظية على أثير الشبكة العنكبوتية وإلى حد ما في الدوائر الفعلية بتلاسنات لفظية من هذه النوعية. أحدهم رد على تغريدة لإعلامية مصرية شهيرة كتبت أن ما طلبه الثوار من تلفزيون الدولة في أثناء الثورة كان «بمثابة الخيانة»، بقوله إنها «دولجية»، ما دفع ثالثاً إلى الدفاع عنها بنعته بـ «الإخوانجي»، فرد بوصم المدافع بـ «الأمنجي».
ويتأجج حراك المصطلحات مع تزاحم التوجهات الضبابية وتناثر المعارك اللفظية على الشاشات، لا سيما مع اقتراب انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب، فبين المدافعين عن الدولة والمحبين للرئيس والداعمين للجيش والخادمين للأمن والمؤمنين بالثورة والمعتنقين لتوجهات الإسلام السياسي يدور الجميع في أفلاك مصطلحات يتم ابتكارها وإطلاقها بغية النيل من الآخرين أو السخرية من توجهاتهم أو إعلان الفوقية أو تأجيج المشاحنات اللفظية. لكن تظل المشاحنة «الفايسبوكية» الأكثر طرافة تلك التي اتهم فيها «دولجي» صديقاً له بأنه «كفتجي» (في إشارة إلى عدم الفهم وافتقاد الدراية)، فما كان من «الكفتجي» إلا أن نعته بـ «المصلحجي» (في إشارة إلى تغليبه المصالح وترجيحه المكاسب)، فتبرع ثالث بوصف كليهما بـ «الأمنجي»، فردا عليهما بأنه حتماً «إخوانجي». |