التاريخ: كانون ثاني ١٦, ٢٠١١
 
المسؤولية عن اضطهاد أقباط مصر... هل إنها فعلاً شديدة الغموض؟

الاحد 16 كانون الثاني 2011

 

دلال البزري


قبل التفجير الأخير الذي استهدف كنيسة القديسين الاسكندرانية ليلة رأس السنة الفائتة، وصلتني رسالة الكترونية، سارعتُ إلى إعادة إرسالها للأصدقاء. "عنوان الرسالة "يوميات الاستاذ عبد ربه المسلم في مصر المسيحية -القسم الاول"، يتخيّل فيها كاتبها عكس ما هو قائم في مصر اليوم: بدل طغيان التديّن الاسلامي، يحلّ التديّن المسيحي، ولكنه يشبه بحذافيره التديّن الاسلامي القائم فيها: شكلي، طقوسي، مغالٍ، وكاره للإختلاف.


يروي الكاتب المجهول لهذه الرسالة الحياة اليومية لبطله عبد ربه، فيقول: "لو صحيتْ الفجر على صوت ميكروفونات عالية جداً، بل مفزعه، ومشغَّلين قناة "سي تي في", وكان شغّال قداس، وبعد نصف ساعه مثلا التلفزيون يتْقفل ولقيت واحد صوته زى صوت الفنان عباس فارس بينادى ويقول كيريا لايسون كيريا لايسون...".


ويتابع عبد ربه المسلم مساره: "تروح شغلك، تشاور لأول تاكسى يقابلك. تلاقى السواق مسيحي ومشغَّل الكاسيت على قسيس عمّال يقول كفروا الذين قالو ان محمد رسول الله، واذا وجدتم الذين كفروا، فضرب الرقاب".


يهرب عبد ربه من التاكسي، ويلجأ الى المترو، فماذا يجد؟ "طبعا نِزِلتْ من التاكسى، وقُلتْ أركب المترو. قطعتْ التذكره ورحتْ داخل على المترو ورحتْ جَري على أول كرسى فاضى وقعدتْ. دقيقه ولقيتْ اللّى جنبك راح مطلّع انجيل من جيبه وقاعد يقرأ فيه بصوت عالى لغاية ما صدّعك، وطبعا أنت شايف مسيحيين كتير حواليه ولو اتكلمت هايقولّك: "انت هاتعترض على كلام ربونا!"".


يصل عبد ربه أخيرا الى عمله: "المهم توصل شغلك بحمد الله وتوفيقه وأنت عصبى لأنك مانمْتش من الميكرفونات ومتنرْفز من سواق التاكسى ومصدّع من اللّى كان قاعد جنبك فى المترو. طبعا هاتدخلْ المكتب هاتلاقى أغلب اللّى فيه مسيحيين تروح قايلهم: "صباح الخير" تلاقيهم بيردّوا عليك بمنتهى الغتاته (سماجة) ويقولوا لك: "سلام المسيح". طبعا تستغرب من الرد وتسكت".
ثم يبدأ نهار العمل، ويحصل ما لا بد منه: "وساعه زمن وتلاقى الموظفين اللّى جنبك بيقولوا لك سلام بَئا رايحين نصلّى صلاة باكر... وجُمْ فى نصْ الطُرقه اللّى قدام الباب وبدأو يقرأوا من الانجيل ويردّو على بعض بصوت عالى، وطبعا أنت عاوز تروح الحمام مش عارف تعدّى عشان الطُرقه مسدودة، تضطر تمْسك نفسك وتسْتنّى لغاية ما يخلصوا".


وبعد ذلك، وفى وسط النهار يتوجه اليه زميله جرجس فيقول له: "يا عبد ربه إيه رأيك ماتيجى تبقى مسيحى ونكسب فيك ثواب، لأن أنت عارف ان دينك مخرّف وإحنا خايفين عليك عشان هاتروح نار جهنم وان الدين عند الله هو المسيحيه" وطبعا هاتردّ عليه بشكل ديبلوماسى لأنك مش عاوز تعمل مشاكل برضو وتقوله: "شكرا يا استاذ جرجس انا عاجبنى دينى وياريت ماتكلمنيش فى الموضوع ده تانى"".


محنة عبد ربه لا تنتهي عند هذا الحد. فعندما يدخل بيته، يجد زوجته "قاعده وعفاريت الدنيا طالعة على وشّها". يسألها: "مالك يا وليّة؟"، فتجيبه انهارده ماشية فى الشارع لقيت الواد اللّي اسمه جورج يقول لي: "ان لبسك ده هايودّيكي جهنم وانتي كده بتخلينا نبصّ عليكي الله يحرقك انت واللي زيّك"".


قصة عبد ربه ليست سوى غيض من فيض، سوى المشهد البائن على الملأ. وهي تروي عما تلمسه أنت في مصر بانتظام، بنوع من "الروتين" المتصاعد، كل يوم بدرجة طفيفة أعلى، بما يسمح للعين والاذن الاعتياد عليه. وهي قصة لا تضع وقائعها ضمن سياق أوسع، والذي بات، هو أيضاً، من البديهيات. فالأقباط محرومون من بناء كنائسهم، فيما المسلمون يفرّخون المساجد أينما وجدوا ذلك ملائما لمزاجهم؛ احيانا يفرغون من هذه المساجد، ويصلّون على الطريق العام للأزقة، حيث يبسطون "ايمانهم"...


والاقباط، من جهة أخرى، غائبون عن مؤسسات الدولة ومفاتيحها "السيادية"، ومواقعها العليا؛ محرومون أيضا من تاريخهم وثقافتهم ورموزهم في التعليم، في الاعلام وكل المعاني الشعبية السائدة، كأنهم متخفّون، غير موجودين.


ويتزيّن هذا الغياب بأقوال مأثورة، آخرها، عشية التفجير الإرهابي، فتوى الشيخ يوسف القرضاوي، وانطلاقا، طبعا، من قناة "الجزيرة"، حيث يعتبر الاحتفال بأعياد الميلاد في البلدان الاسلامية "حراما"؛ كما يتزيّن كنوز "المفكر" الاسلامي سليم العوا، هو الآخر، الذي يبثّ من الشاشة نفسها، تحريضاً على الأقباط وعلى رجالات الكنيسة، ويعتبرهم خطرا على أمن مصر؛ ويدافع عن وفاء قسطنطين وماري عبد الله، باسم "حماية الحرية الشخصية واحترام الدستور". وقصة هاتين السيدتين ضجّت بها شوارع الاسكندرية وازقتها عشية التفجير، بتظاهرات "غاضبة" شبه يومية يقودها سلفيون ولا يمنعها الأمن، كما يفعل عادة ازاء اي تجمّع أو جمهرة؛ وذلك فداء لحرية مزعومة، غير معروفة تماما، في تغيير هاتين السيدتين لديانتهما نحو الاسلام.


خلف المشهد ايضاً، وليس بعيدا عن الكواليس، جرائم القتل والحرق والتهديد السافر التي لا يتوقف الاقباط عن التعرّض لها، وبصورة شبه دورية: قبل عام بالضبط، في نجع حمادة في الصعيد، كان هناك اطلاق نار على مصلين أقباط، أودت بستة منهم. الجاني حتى الآن مجهول... ومنذ أقل من شهر، تظاهرة قبطية في العمرانية في محافظة الجيزة، احتجاجا على تدخل الامن لمنعهم من ترميم كنيستهم، والقتلى ثلاث، أو أكثر.


هذه المأساة كان يمكن ان تُبتلع لو كان للنخبة المصرية موقف مشرف من المسألة. اذ انني حضرتُ عددا من الندوات والمؤتمرات المخصّصة تحديدا لهذا الموضوع عن "الاقليات المصرية". والمشاركون فيها مثابرون على نفي وجود "مشكلة أقليات"، فيما البسالة كانت تقتضي مجرّد التلويح "الهادىء، غير الاستفزازي"، بوجودها. والمعيب أكثر من ذلك، هو جوقة مثقفي السلطة والمعارضة للرد على كل تقرير غربي، رسمي أو غير رسمي، ينتقد التمييز الصارخ الواقع على الاقباط: ينفون التمييز بحماسة من يؤمن حقاً بشعارات "الوحدة الوطنية" أو "السيادة الوطنية" أو "منع التدخلات الخارجية".


الأسلمة المتمادية لمصر، المعزِّزة للطائفية، مبثوثة في كل متن، في كل قول، في الهواء الطلق، كما بين الجدران. ولهذه الأسلمة تنظيمات، الاخوان، والسلفيون؛ وهؤلاء الأخيرون، الأكثر تشدّداً من "الاخوان"، صاروا من القوة بحيث اخترقوا اتنظيم الاخوان من الداخل، وصاروا من عتاتهم (دراسة حسام تمام "تسلّف الاخوان". مكتبة الاسكندرية). لكن هؤلاء مجرد أحزاب، أو جمعيات منظّمة، والسلطة الحاكمة قادرة على النيل منهم أمنياً؛ بدليل "الانتخابات" الأخيرة التي لم يفزْ فيها اخواني واحد، بعدما كان للاخوان ثلث البرلمان. الاسلامية المنظّمة مقموعة امنيا. تضربها السلطة الحاكمةعندما ترى ذلك ملائما. وهي كلما ضربت أمنياً، كلما "تأسلمت" بدورها، وأسلمت مؤسساتها وبيروقراطيتها وشاشاتها، الرسمية و"المستقلة". وذلك حفاظا على الرأس مال الرمزي الوحيد المتبقّي لها، بعدما أضاعت الكثير من أسس شرعيتها: من التاريخية الى الراهنة، من قيادة للعالمين العربي واللاسلامي والافريقي، الى التنمية الى الحريات... بل غالت في اضاعتها.


هذه "العملية"، أي الأسلمة"، عمرها 30 سنة، هيأ لها العهد الناصري، "العلماني" في المشهد واللفْتة الخارجية، والاقصائي في ممارسته الجماهيري، والحزبية، والبيروقراطية. انها الحلقة المفرغة من القمع الأمني للإسلامية المنظمة، وفي الآن عينه الأسلمة المتمادية في كل ناحية من نواحي العيش العام والخاص. حلقة جهنمية التأمت مكوناتها ببطء شديد، ولكن بثقة كبيرة، أفضت الى ما نحن عليه اليوم من طائفية وعنف وكراهية.


وبعد ذلك، هناك من تفاجئه الجريمة الأخيرة. هناك من يتهم "الأيادي الخارجية"؛ هناك من ينفي تهمة الجريمة عن أي مواطن مصري، مسلم: "لا يمكن ان يكون مصرياً"، "لا يمكن ان يكون مسلما". بل هناك من يتهم اسرائيل، أو "الموساد" بالضلوع فيها...


عجبا! كانت اسرائيل في ماض قريب ذريعة الأنظمة العربية، وها هي الآن اصبحت، بفضل تطور فهمنا للأمور العالمية، إلى ذريعة للأنظمة وللمجتمعات في آن معاً.