بسام البدارين عمان ـ «القدس العربي»: تستثمر حكومة الرئيس عبدالله النسور اللحظة الراهنة في البلاد والمنطقة لكي تمضي بخطوة تحظى بإسناد خلفي حتى وهي تقلص من هامش الحريات الصحافية بذريعة معالجة الانتهاكات ومعاقبات المستغلين للشبكة الإلكترونية في التعبير السلبي عن الرأي.
هذه المرة ولدت المفاجأة غير السارة عبر تفسير غامض صدر عن ديوان مختص بتفسير القوانين يتبع رئاسة الوزراء.
النص يعتبر ببساطة شديدة وبلغة غير مواربة ان محاكمات الطباعة والنشر الإلكتروني ليست حكرا على قانون المطبوعات المعني، ولكن يمكن ان تجرى وتنظم بناء على قوانين أخرى أبرزها قانون الجرائم الإلكترونية.
لا يؤسس ديوان التفسير الذي لا يتدخل أصلا بمثل هذه الاعتبارات إلا بعد استفسار رسمي بأمر من رئيس الحكومة إلا لقاعدة جديدة قوامها السماح بحبس وتوقيف الصحافيين ونشطاء التواصل الاجتماعي في قضايا الرأي قبل المحاكمة، الأمر الذي لا يتيحه بطبيعة الحال قانون المطبوعات والنشر الذي لا ينص على الحبس ويستبدله بغرامات ولا يجيز توقيف الصحافيين.
النضال في الجسم الإعلامي والصحافي الأردني ضد جزئية التوقيف قديم وفكرة نشطاء الحريات ان التوقيف في السجن هو بحد ذاته عقوبة على جرم لم يفصل به بعد، والمطالب عبر عنها مرارا وتكرارا نقيب الصحافيين طارق المومني وهو يعارض عقوبات مثل الحبس والتوقيف مطالبا بأن تتابع محاكمات النشر والرأي والمطبوعات بقانون المطبوعات وليس بقوانين أخرى. في العادة كانت السلطة تستخدم سبعة تشريعات على الأقل في محاكمات الرأي والنشر تقليصا لحريات النشر وردعا للتعبير الحر.
مرات عدة اتخذ القصر الملكي تحديدا وبصورة علنية موقفا مغايرا للحكومات والأجهزة في هذا الموضوع، والملك عبدالله الثاني شخصيا قال في عدة مناسبات ان الدولة تثق بنفسها وإن حرية الصحافة سقفها السماء وإنه لا يؤيد عقوبات التوقيف في قضايا الإعلام والمطبوعات.
رغم ذلك كانت الدولة ومؤسساتها ورموزها وحتى القصر الملكي هدفا لأنماط متعددة من الإعلام الإلكتروني الرديء الذي لا يتمأسس على عناصر مهنية.
وهي الثغرة التي تحاول استثمارها اليوم حكومة النسور لضبط الايقاع وردع حريات الاعلام وتحجميها عشية فيما يبدو توسع قاعدة الانتقادات غير المهنية للحكومة ورئيسها وبروز استهدافات نتجت عن الإقامة الطويلة للوزارة في الحكم.
النسور بهذا المعنى يؤيد دعوات التقييد وبصورة تبرر الفتوى الغامضة التي صدرت عن ديوان تفسير القوانين، لكن الحكومة تتحدث عن عدالة في عقوبات تشمل كل القضايا والعقوبات وعن عدم وجود مبرر أخلاقي لاستثناء قضايا المطبوعات والاعلام الإلكتروني من عقوبة التوقيف وعن الالتزام بجوهر القضايا الإلكترونية الذي أجاز المشرع من خلاله عقوبة التوقيف.
الحكومة تقول أيضا ان الهدف لم يكن ولن يكون حريات التعبير المسؤولة المهنية الاخلاقية الملتزمة بل الاعتداءات التي تمارس ضد مصالح المجتمع وكرامات الافراد تحت ستار مثل هذه الحرية، وهو نقاش معقد وإشكالي يدلل مرة أخرى على ان المؤسسات الأهلية المعنية برعاية حريات التعبير مثل نقابة الصحافيين وغيرها تخفق في الواقع في احتواء الانتهاكات وفي تأديب التعبيرات الشاذة التي تستخدم حريات الإعلام والتعبير لأغراض شخصية أو انتهازية أو حتى ارتزاقية.
إخفاق الجسم الصحافي في تعقيم حديقته من الأعشاب الضارة نتج عنه دوما ذرائع وتبريرات يمكن ان تستخدمها السلطة في أي وقت لقمع وتحديد حريات الإعلام في نافذة تثير الجدل ويوفرها اليوم التوضيح الصادر باسم تفسير قانون الجرائم الإلكترونية.
لا توجد أدلة ولا قرائن على ان مقاصد الحكومة والسلطة هي دوما الانتهاكات غير المهنية في مستوى حريات التعبير الإلكتروني.
ولاتوجد أدلة على ان القيود التي تريد الحكومة فرضها على حريات التعبير لن تستهدف مستقبلا أصحاب الرأي السياسي المخالف أو المعارض أو الناقد فقد سبق ان سمح لمحكمة أمن الدولة باستهداف سياسيين من بينهم نائب مراقب «الإخوان المسلمين» الشيخ زكي بني ارشيد بسبب مقال شهير على «فيسبوك».
وسبق ان استهدف كتاب وأصحاب رأي لا مجال لاتهامهم بانتهاكات غير مهنية في محاكمات أمنية الطابع/ مما يجعل ذرائعية الحكومة في هذا الاطار غير مقنعة، خصوصا ان من رفعوا السقف في الصحافة الإلكترونية وتحرشوا بالنظام والدولة وكانوا شخصانيين في الرأي والتعبير هم طبقة محدودة من الإعلاميين المنتجين داخل أروقة الدولة نفسها والذين يحظون خلف الستارة بالدلال والامتيازات ويستخدمون بين الحين والآخر ضد أصحاب الرأي المستقل.
لذلك يمكن ببساطة قراءة خطوة النسور الأخيرة على انها محاولة متكررة لضبط ايقاع الخصومات وتخويف أصحاب الرأي، وهي بكل الأحوال خطوة انتهازية تستثمر في تراكم الانتهاكات الإعلامية وفي عدم وجود أداء فاعل داخل الجسم الصحافي لمعالجة واحتواء هذه الانتهاكات بموجب مواثيق الشرف الأخلاقية.
وهي قراءة تستثمر ايضا في سخط المستويات المرجعية من التعبيرات الشاذة التي تحاول الانقلاب على تقاليد الرأي في المملكة تارة وتعيق الاستثمار وتفسد الكثير من الأمور تارة أخرى.
وسط هذه المنحنيات يمكن القول ان حريات التعبير في الأردن، خصوصا على المستوى الإلكتروني عالقة مجددا بالنمط نفسه من النقاش الاستهلاكي المعلب، الذي يؤشر مرة جديدة على عدم وجود استراتيجية جماعية توافقية في البلاد، تجيب على تساؤلات حريات التعبير الجوهرية والأساسية. |