القاهرة - أمينة خيري انتهت الفورة الأولى من الشطحات الكلامية والمناظرات الشعبية والتلاسنات الفضائية لينفض الجمع الغفير من على أثير العنكبوت، ويعاود الشعب العظيم حياته اليومية بعيداً من رماد الانتخابات، ولو موقتاً، ويعود سكان الكوكب إلى سابق حياتهم حيث التفاصيل الصغيرة والمؤثرات الكبيرة وكلاهما يدق على أوتار اقتصاد أشبه بالقنبلة الموقوتة وأسعار أقرب إلى المتفجرات ذات الاهتزازات الملغومة، إذ لا برلمان قادماً يمثل خلاصاً ولا نظام قائماً يقدم نجاة.
تصدح نجاة بصوتها الذهبي، شادية: «القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب، وقلبي إللي حبك لسه بيسميك حبيب»، فيصدر المواطن آهة عميقة ينسب جانباً منها إلى «الأسعار النار» و «المدارس النار» و «الرشاوى النار»، ويرجع الجانب الآخر إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي أحبه ووثق فيه وآمن بقدراته، فنزل وفوّض وعضّد وانتخب لشعوره بأنه قريب منه، فإذ بالبعيد يحظى بقرب الرئيس، ويعود القريب مجدداً إلى صفوف الغلابة.
«الغلابة يا ريس»، عبارة استغاثية استنكارية استفسارية استقصائية ظن بعضهم أنها استثنائية لا تخص سوى زمن الرئيس السابق حسني مبارك، لكن إذ بها تعاود الظهور بقوة في هذه الأيام التي تخفت فيها فتاوى الانتخابات وتفتر شظايا التعليلات وتتبدى آثار الإجراءات وتتجلى أوجاع الفقراء.
الملحوظ أن أوجاع الفقراء لم تعد قاصرة على أنَّات الطبقات المهروسة تحت خط الفقر، أو الممسكة بتلابيبه أو الجالسة فوقه، بل امتدت إلى الطبقة المتوسطة التي استبشرت خيراً وتفاءلت كثيراً بإعلان مشاريع قومية عملاقة ومؤتمرات اقتصادية جبارة وتغييرات وزارية شجاعة.
شجاعةُ -وفي أقوال أخرى تهور وفي ثالثة مكاشفة في غير وقتها- رموزِ النظام في مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية أتت بنتائج غير مرجوة، فإعلان ارتفاع الدين الخارجي (بنسبة 4.3 في المئة ليصبح 48.1 بليون دولار)، وانخفاض احتياط النقد الأجنبي (من 20 بليون دولار العام الماضي إلى 16.3 بليون دولار)، وزيادة عجز الموازنة (من 189.3 بليون جنيه مصري إلى 262 بليون جنيه) لن يؤدي إلا إلى تدوينات «فايسبوكية» مطالبة بمحاكمة وزراء المجموعة الاقتصادية وإقالة محافظ البنك المركزي. والتصريح بنزوح ربع السكان أسفل خط الفقر ونسبة بطالة تعدت 12 في المئة، 90 في المئة منهم من الشباب (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، لم تسفر إلا عن تغريدات «تويترية» بوجوب محاسبة الرئاسة، لأنها وعدت ولم تف بإصلاحات اجتماعية. والمجاهرة بزيادة نسبة التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن من 7.9 في المئة في آب (أغسطس) إلى 9.2 في المئة في أيلول (سبتمبر) الماضي (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء) لم تؤت إلا إفتاءات نخبوية ترجح روشتات علاجية وتدخلات جراحية تحل الأزمة في يومين أو ثلاثة.
لكن ثلاثة ملفات ذات عناوين مغايرة هي هاجس المصريين نهاراً وكابوسهم ليلاً ووجعهم المستمر في غير أوقات الانتخابات البرلمانية والمباريات الكروية. الأسعار والتعليم والصحة حديث أبدي وهمٌّ شعبي يربطه بعضهم تارة بالعزوف الانتخابي، وتارة بالاحتقان الشارعي، ودائماً بمعيار النجاح أو الإخفاق للقابع في الاتحادية.
ورغم تراوح المقدمات التي تسبق آهات الشكوى اليومية بين «رغم أنني أحب السيسي» و «رغم أنني انتخبت السيسي» و «ورغم أنني كنت آمل في السيسي»، لكن دائماً تأتي «إلا أن» معبأة بالمرارة. بعضها مرارة لا تخلو من تبرئة للرئيس، وبعضها تخلى تحت الوطأة عن إتيكيت التعليل، وبعضها الآخر ملّ الانتظار وأنهكه وضع الاعتبار للأمن والأمان.
أسعار الخضروات والفواكه المشتعلة أنست المصريين حنيناً إلى قوائم باتت منقرضة تحوي لحوماً ودجاجاً وأسماكاً، وتحلل منظومة التعليم الرسمي أدى إلى كيان إجباري موازٍ باهظ الكلفة منزوع التعليم خالٍ من التربية اسمه الدروس الخصوصية، وتدهور حال الرعاية الصحية جعل من المريض غير المقتدر مشروع «مرحوم».
الرحمة التي يطالب بها المصريون هذه الأيام بطرق شتى، مرة بمداخلة هاتفية في قناة فضائية، ومرة بشكوى رسمية على مواقع وزارية، ومرات لا أول لها أو آخر من خلال احتكاكات شعبية بين مواطنين يحاولون التغلب على الوضع الاقتصادي الصعب بضغط بعضهم على بعض تفسر في قواميس الأداءات الاقتصادية والنجاعات الاجتماعية برؤى واضحة وخطط صارمة. إلا أن غموض الرؤية الرسمية وضبابية، وربما سرية، الخطة الوطنية باتا هماً شعبياً، ربما لا يعبر عن نفسه في قلق على الدين العام داخلياً وخارجياً، أو تشكك في سعر الجنيه، أو تريب في مصير السلع المستوردة بقدر ما يظهر جلياً واضحاً في بائع خضروات يضيف جنيهين إلى كيلو الخيار الذي يبيعه لسائق الأجرة الذي بدوره يفرض ثلاثة جنيهات إضافية على قيمة العداد التي يسددها الموظف، ما يدفع الأخير إلى سياسة «الدرج المفتوح»، فيجد بائع الخيار نفسه مضطراً إلى سداد المعلوم لإنجاز المطلوب، وهكذا. |