القاهرة – أمينة خيري كأن أشهراً طويلة لم تمضِ، وكأن دروساً قاسية لم تُستقَ، وكأن أموالاً كثيرة لم تنفق، وكأن أعداداً غفيرة لم تضحك ملء شدقيها، وكأن البلاد لم تتعرّض للانتقاد بسبب غياب البرلمان، وكأن العباد لم يذوقوا الأمرّين من مسخرة الائتلافات، و «فركشة» التحالفات، ومهزلة الأحزاب، وصراعات الأفراد على رمز النجمة الملغى وشعار الجمل «الوطني»، «كأنك يا أبو زيد ما غزيت» حيث هرج الساسة ومرج الشاشة وأنفة المواطن في الأيام القليلة السابقة لانتخابات طال انتظارها وبرلمان عزّ وجوده.
وجود الشخصيات نفسها في المساجلات ذاتها، على وقع الخلافات المستنسخة، والصراعات المتطابقة على خلفية الاتهامات الثابتة بأن الأحزاب متجمّدة، والبرامج متحجرة، والحراكات متوقفة، والمصالح الشخصية متصدرة، والحجج واهية، والشماعات متوافرة، لم يصدم المصريين أو يفاقم قلقهم أو يثبت عكس توقعاتهم. ليس هذا فحسب، بل إن فحوى البرامج الحوارية ومحتوى الفقرات النقاشية باتا معلومين مسبقاً ومرحب بهما سلفاً بديلاً من حوارات الراقصة برديس وعناقات فخذة اللحم على الهواء مباشرة.
مباشرة فتح باب الترشح وإعادة بث الحياة في سوق اللافتات وابتكار الأفكار للتأثير في الناخبين والضرب في المنافسين، لم تأت بجديد شكلاً وموضوعاً أو حتى تجديداً وتحديثاً. فعلى مدى الأيام الخمسة الماضية، ومنذ تم فتح باب الترشح لانتخابات مجلس النواب، تلوّنت الحياة الفضائية واصطبغت الشوارع الرئيسية وانغمرت الشوارع الفرعية، واندفعت الأقلام الصحافية واندلفت الشخصيات البرلمانية (السابق منها والآمل) في حراك كلامي ونشاط لفظي وعنفوان استعراضي، ودأب استنهاضي وسجال استنفاري بغية شحذ الهمم الانتخابية والعزائم التكتلية، وحبذا الأموال الرأسمالية.
«رأسمال السياسي تاريخه، وأصول البرلماني الثابتة سمعته»، هكذا كتب أحد البرلمانيين السابقين الآملين في أن يكونوا «مستقبليين»، تغريدة جذبت الكثير من التعليقات والعديد من الانتقادات وكماً غير قليل من التغريدات الكاشفة عن نكسة ثورية ووكسة سياسية. فالرافضون والرافضات لعودة الوجوه القديمة الى مجلس النواب المقبل، رفضوا قلباً وقالباً شكلاً وجوهراً ملامح العودة المؤكدة، لا سيما أن رائحة المال السياسي تفوح من هذا وتحوم حول ذاك. كان اللافت أن كثراً غاصوا في بحور «كنا عايشين أفضل» و «حياتنا كانت أحسن»، حيث العقاب الثوري الشعبي لثورة (يناير) التي وصفها أحدهم مغرداً أيضاً، بأنها «ضلّت طريقها ولم تنجب سوى ضلال متأسلم وضياع مستأسد».
«الأسد» أحد الرموز الانتخابية التي كانت سبباً في التدافع والتعارك والتراشق في اليوم الأول من فتح باب الترشح، وذلك لما لملك الغابة من دلالات عضلية وإسقاطات قيادية وكنايات افتخارية. لكن العبرة تبقى في الممارسات البرلمانية التي لا تعترف بسطوة «الأسد» أو خيلاء «الطاووس» أو حلاوة «نفرتيتي» أو حتى برودة «التكييف».
جهازا التكييف اللذان تم تركيبهما في عجالة على باب محل تجاري صغير في حي مصر الجديدة، مع تركيب ستائر بيضاء هفهافة في الواجهة وتعليق أفرع إضاءة كهربائية خافتة وتثبيت اثنين من «البودي غارد» من ذوي الأجسام الفائرة على جانبي المدخل، مع لافتة ضخمة «مقر المرشح فلان الفلاني لتلقّي طلبات المواطنين»، تلقي بعضاً من الضوء على البرلمان المقبل.
البرلمان المقبل يبقى شكله ومحتواه في علم الغيب، حتى وإن كانت صراعات تشكيلات التحالفات النهارية وسجالات «من السبب في ضعف الأحزاب الليلية؟» معروفة لدى المواطنين ومتوقعة بين الناخبين. الوجوه الحزبية الجديدة التي أطلّت على المصريين بعد ثورة يناير، تعيد طلّتها هذه الأيام وإن خضع بعضها لتغيرات جغرافية حيث الاستقالة من هذا الحزب والانضمام الى ذاك التيار. والكيانات المسابقة للزمن من أجل تحالف موحّد هنا أو ائتلاف منسّق هناك، تعيد طرح خلافاتها وعرض سوءاتها هذه الآونة على الهواء مباشرة تارة، وعبر صفحات الجرائد تارة أخرى. الطريف أن معدّي البرامج الحوارية يمتنعون عن استضافة كيانات حزبية على سبيل التناظر، خوفاً من أن يتحوّل متناظرو اليوم إلى متحالفي الغد أو العكس.
الشيء وعكسه أو التوجّه ونقيضه أو الانتماء ومقابله، سمات اعتادها المصري في السنوات التالية لثورة يناير. لذلك، حين صرّح وزير سابق وكادر ضارب في جذور الحزب الوطني الديموقراطي المنحل، بأنه يترشح في البرلمان المقبل من أجل تفعيل أهداف ثورة يناير وحمايتها، لم ترتفع حواجب المصريين عجباً أو تتمصمص شفاههم شدهاً. كما أن البشائر المؤكدة لعودة نائب الخدمات لم تثر غضباً أو تتسبّب في قلق، بل أدت إلى شغف. حتى الشكل العام للبرلمان المقبل، حيث رئيس الدولة بلا حزب، وأحزاب الوطن القديمة بلا رؤى، وجديدها بلا قوى، وفلولها بلا رفض شعبي أو وجود ثوري، والمعارضة من دون وجود فعلي، والإسلام السياسي من دون غياب حقيقي، لم يعد يزعج الناخبين أو يؤرق نومهم أو يدعوهم إلى بكاء على لبن ثوري مسكوب.
حتى سكب «حزب النور» الديني أموالاً طائلة في حبّ المصريين، حيث توزيع عقار لعلاج أكبادهم وتنظيم معارض لمغازلة معداتهم وأخرى للتخفيف عن جيوبهم ابتغاء مرضاة الله وبالمرة ضماناً لأصوات الناخبين، لم يضايق المواطنين.
المواطنون، أي الناخبون، وفي أقوال أخرى الممتنعون أو المتململون، وثالثة المترفعون الفاهمون للقصة وما فيها الكاشفون للبرلمان الجديد وجانب من نوايا نوابه وقدراتهم وأغراضهم، لا يشغلهم سوى لعبة عودة مرتقبة لـ «إخوان» ليسوا إخواناً من كوادر صغيرة وصغيرة جداً، لكنه يبقى انشغالاً من باب الإثارة وليس من بوابة القلق والانشغال. |