التاريخ: أيار ٣١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
تحقيق: كركوك... البيشمركة «تتعلم» حرب الصحارى والعرب تائهون بين الأقوياء
كركوك - علي السراي 
مع الفجر، مرّت عجلات «التويوتا» الكاكية التي تستعملها قوات البيشمركة مسرعةً في طريق ترابي يخترق حقولاً شاسعة من القمح، نحو قرية «البشير» و«ملا عبدالله»، أخطر معاقل تنظيم «داعش»، جنوب كركوك.

كان الجنود يراقبون القرى البعيدة وعدداً كبيراً من الأبنية التي سويت أرضاً وعجلات «بيك آب» محترقة، بانتظار تحرك غير مألوف، بينما الأيادي على الزناد.

لمَحَ المصور غرفةً من الطين على جانب الطريق مطلية بالأسود، كُتِبَ عليها: «الدولة الإسلامية، ولاية داقوق»، لكن لا أثر لأحد من أتباعها. فالحال، أننا الآن نخترق منطقة تركتها «داعش» بعد معركة طاحنة.

كان هذا الرتل العسكري الكردي تعزيزات قتالية لفوج تابع لقاطع كركوك، حيث طلب المزيد من الدعم في مناطق انتشار جديدة. إنهم يتحدثون عن معركة انتهت بمكاسب تبلغ مئات الكيلومترات.

قبل خمسة أيام من هذه الجولة، تفوقت القوات الكردية في معركة مع تنظيم «داعش»، وسيطرت على نحو ٩ قرى جنوب المدينة، بعضها يقع على طرق استراتيجية تصل إلى الحويجة، وجسر الفتحة، حيث الموصل إلى الشمال الغربي.

المقاتلون الكرد يتحدثون عن «مسك الأرض» كمهمة أكثر صعوبة من خوض معركة، فهم اليوم في منطقة محاصرة ببيئة عدائية للكرد، وعلى مرمى جبهات قريبة لـ «داعش». 

جنوب كركوك... حيرة الحدود والمكونات

في غرفة داخل بيتٍ تركه مسلحو «داعش» في قرية العطشان (جنوب كركوك)، وهو الآن مقر للبيشمركة، وصل صادق مراد، القناص الكردي في الوحدة التي تسيطر على القرية، في عقده الأربعين، طويل القامة ويضع عدسات طبية، يعلق قطعة قماش خضراء اللون على رقبته ينظف بها سلاحه كلما انتهى من جولة قتال.

جلب مراد كوبَ شاي وجلس أرضاً، كان يقول لزميله، «لقد ظننت أنه مات، لكنه عاد لينهض ويمشي (…) لم أنتظر حتى أرديته بطلقة ثانية».

وسرد القناص الكردي يومه مع مسلح من «داعش» كان حاول التسلل إلى قاطع عمليات البيشمركه. يقول: «في النهار يحاولون الاستطلاع، يحددون بعض مواقعنا ويضربونها ليلاً».

لا يعرف مراد كم مرة شارك في القتال كقناص، ولم يحص كم مرةً أصاب أهدافه، لكنه يتذكر كيف قُتل زميله في الخندق، «كان يتحدث عن زوجته، قال أنها الآن عند أهلها في كلار (…) فجأة توقف عن الكلام، وكنت أراقب من منظار البندقية مسلحاً من داعش، قلت له: أكمل لِمَ توقفت عن الكلام... لقد كان ميتاً برصاصة في رأسه».

يخرج، الآن، صوت النداء من جهاز الاتصال، يقول بلهجة كردية، «على الجميع الاستعداد للتحرك، سنذهب في مهمة».

كان كل شيء سريعاً، وحمل الجنود أسلحتهم وصرنا معهم في العجلات التي انطلقت نحو الخطوط الأمامية، في أحد محاور بلدة «البشير». البشير قرية زراعية تقع إلى الجنوب الغربي من كركوك على بعد 27 كيلومتراً، وهي تبعد أيضاً عن ناحية «طوزخورماتو» 7 كيلومترات. يمر من القرية خط سكة الحديد الذي يربط كركوك ببغداد.

وتفيد إحصاءات غير رسمية تعود إلى عام ٢٠١٠، بأن البلدة كانت تضم 1400 بيت سكني، ونحو 7 مدارس و10 مساجد وحسينيات.

في الطريق، مناطق مأهولة بسكانٍ من الكرد والتركمان، كان بعضهم يلوح للجنود مرحّباً، قبل أن يدخلوا بلدات عربية مهجورة. بيوت تحولت إلى مقار للبيشمركة، تنتشر بينها عربات مدمرة تابعة لـ «داعش»، ولافتات لـ «الدولة الإسلامية».

سألت ضابطاً رافقناه في عربة «هامفي» عن السكان، قال «انسحب داعش، فرحلوا معه».

كان من الواضح، أن الجنود المقبلين من السليمانية (كردستان العراق) وبعض مناطق كركوك، يتصرفون بحذر شديد ويظهرون ردود أفعال تكشف شعورهم بأنهم في بيئة معادية، كان القلق من أنهم يتحركون عسكرياً في جبهة تفصلهم عن مناطق «عربية سنّية» يحتلها «داعش»، يسيطر عليهم، لكنهم في النهاية يتحدثون مراراً عن «حماية قلب كردستان... كركوك».

وصل شيخ جعفر، وهو قيادي كبير في الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، ووزير بيشمركة سابق، إلى السواتر الترابية التي تفصل جنوده عن مناطق انتشار «داعش» بنحو ١٢٠٠ متر فقط. كان يقول لضباط القاطع عن حاجته إلى مزيد من آليات الجرف حتى تتمكن وحداته من بناء المزيد من السواتر الترابية، لقد كانوا يرغبون بخطي دفاع أمام «داعش».

حل الليل، وقال ضابط كردي في القاطع، أنه بإمكان الصحافيين العودة إلى مقر الوحدة داخل المدينة «هناك يمكنه توفير الحماية، لكن البقاء هنا قد يعرضنا للخطر».

بدت الأمور تلك الليلة روتينية للغاية وهادئة، كانت أنوار عربات ومقار تنظيم «داعش» تنبعث على مرمى البصر. ومن منظار عسكري ليلي، كانت بالإمكان مشاهدة المسلحين وهم يمسكون الساتر المقابل. مجموعة نقاط تتوزع بين منازل وخنادق يتمركز فيها مسلحون مع سيارات مختلفة محصنة بدرع ضخمة من الحديد المضاد، بدت أنها مصنعة محلياً.

يتحدث أحد الجنود الكرد، ويدعى دلير موفق، عن عربات «داعش» التي غنمتها قوات البيشمركة خلال المعارك. يقول: «كل عربة فيها وثيقة تابعة للدولة الإسلامية مدون فيها رقم العربة ومحركها واسم السائق ومحل سكنه ووظيفته في التنظيم، فضلاً عن إشارة إلى السيارة تعود إلى ممتلكات الدولة (…) كانت الوثيقة كما لو أنها من دائرة مرور داعش».

ويضيف: «جميع السيارات التي حصلنا عليها من داعش جرى تعطيل مصابيح الإضاءة الخلفية، ويبدو أنهم تعمدوا ذلك حتى لا تنكشف في الليل عند حالات التوقف، كما أن كل تلك السيارات من دون منبه».

سيبقى الهدوء على الجبهة التي تجول فيها فريق «الحياة»، حتى يرتفع صوت الجندي المسؤول عن المراقبة معلناً تسلل عدد من المسلحين.

يطلق جنود البيشمركة النيران على المتسللين، وينتظرون حتى يكتشفوا أن «داعش» «يجس النبض» فقط، كما يقول الضابط سردار كرمياني.

حين وصلنا إلى القرى التي سيطرت عليها قوات البيشمركة، في عمليات عسكرية بدأت منذ ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٥، كان من الواضح أن قتالاً شرساً دار فيها، لكن التمركز الجديد للجنود الكرد في المساحات التي خسرها تنظيم «داعش» جاء بعد عوامل مساعدة:

أولاً: جميع القرى التي استعادتها قوات البيشمركة قريبة من بيئة اجتماعية يغلب عليها الوجود التركماني الشيعي، والكردي السنّي، ووفق ضباط التقتهم «الحياة» في محور كركوك الجنوبي، فإن التنظيم انسحب بعد خسارته المعركة إلى مناطق سنّية بالكامل، أقربها يبعد نحو كيلومترين.

ثانياً: اختارت قوات البيشركة توقيتاً للهجوم على «داعش»، في وقت كان التنظيم يخسر المعركة في تكريت مع الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي.

ثالثاً: المواقع التي تركها تنظيم «داعش» ليست أكثر أهمية من المناطق التي انسحب إليها، كما في الحويجة والرياض، حيث يقول ضباط الاستخبارات الكردية أن هاتين البلدتين تضمان معاقل لأسرى عراقيين من الكرد والعرب، ومن الجنود والصحافيين، لدى التنظيم.

لهذا، تبدو الليالي في الجبهة الأمامية لقوات البيشمركة، أو ما يسمونه الجنود «الخط المتقدم» هادئة، وطرفي المواجهة يحاولان المحافظة على مواقعهما، حتى الآن في أقل تقدير.

في الليلة التالية، تحرك فريق «الحياة» إلى موقع جديد. كان الضابط يطلب منا الحذر من المسافة التي سنقف عندها في منطقة «جسر الفتحة»، وكان يقول «ثمة خط علينا عدم تجاوزه لأننا سنصبح في مرمى قناص داعش».

وجسر الفتحة، يربط بيجي بمحافظة كركوك في قضاء الحويجة، وهو طريق استراتيجي سواء لنقل جنود وتحرك جنود الجيش العراقي أو البيشمركة، إضافة إلى مسلحي «تنظيم «داعش». إنه الجسر المهم لجميع الأطراف، لأنه سبيل نقل الإمدادات بين جبهتي كركوك وصلاح الدين.

وقفنا قبل الجسر، وأشار الضابط إلى آليات ضخمة مدمرة على جانبيه، بعضها سقط في المجرى المائي الضيق، وقال: «الجسر منطقة صراع منذ أشهر». ثم أشار إلى علامة في منتصفه وقال أن عبورها سيعني الدخول في الحيز الذي يمسك به قناص «داعش».

قبل الجسر كان عناصر البيشمركة يتوزعون في نقاط مترامية، كل منها عبارة عن خيمة تضم عدداً من الجنود. ثمة مولد للطاقة الكهربائية وجهاز تلفزيون وصحن لاستقبال إشارة البث الفضائي وثلاجة.

في أعلى النقطة دائماً جندي يحمل منظاراً وإلى جانبه قناص.

بعد يومين، نسف «داعش» الجسر وانسحب إلى نقطة في العمق باتجاه الحويجة. بعد معركة استمرت سبع ساعات. الجديد في هذه المعركة، أن البيشمركة تنسق مع قوات الحشد الشعبي.

يقول العميد سيروان أن قواته تنسق مع الجيش العراقي، ومع الحشد الشعبي أيضاً. ثم يشير إلى أن وضع المعارك يحتم على الجميع «التعاون مع أي قوة تقاتل داعش».

يعرف المقاتلون الكرد أن تحرير بقية البلدات في كركوك يتطلب مساعدة الجميع، بمن في ذلك الحشد الشعبي، على رغم أن العلاقة بين الطرفين «جيدة بحذر شديد»، وليس من سبب يمنع أن تنشب خلافات حتى بعد تحرير المدينة من التنظيم، فهناك الكثير ليكون سبباً للتناحر، في مدينة نزاع تاريخي مثل كركوك.

أخيراً، قال كريم النوري، الناطق باسم قوات الحشد الشعبي، أن إقليم كردستان يرحب بمشاركة الحشد الشعبي مع قوات البيشمركة في تحرير قضاء الحويجة جنوب غربي كركوك.

ونفى قائد قوات البيشمركة في محافظة كركوك جعفر مصطفى اقتراب قوات الحشد الشعبي من المدينة على رغم انتشارها في ضواحيها، وقال: «هذا ليس صحيحاً، إنه بعيد من الواقع».

العلاقة الحذرة بين الطرفين، لا تعني بالضرورة أن التعاون العسكري سيكون على نحو «القتال جنباً إلى جنب» بين الطرفين ضد «داعش»، إذ تفيد معلومات خاصة بأن جبهات القتال التي تطل على مدينة كركوك يصر الكرد على أن تكون تحت سيطرتهم، في حين يعرفون أن الحشد في ظل انشغاله بجبهات مختلفة لن يكون متاحاً له سوى تأمين الجبهات المطلة على تكريت وسامراء والطريق الرابط بين جنوب كركوك وبغداد.

والحال، أن قوات الحشد تنتشر في شكل مكثف في مناطق وجود العرب والتركمان الشيعة، وهي في الأساس قوات محلية معظم جنودها وقادتها من السكان المحليين، وبطبيعة الحال عليهم «التفاهم مع البيشمركة، والعكس صحيح أيضاً».

مع ذلك، تقول نرمين عثمان، القيادية في الاتحاد الوطني الكردستاني التي كانت تزور قاطع كركوك للبيشمركة، أن «القوات الكردية تقوم بواجب حماية كركوك بمكوناتها كافة، لهذا فهي ترحب بالتنسيق مع الأطراف الأخرى».

النفوذ في كركوك

في منتصف الليل، أخبر العميد جنوده بأنه سيخرج لاستطلاع الجبهات، كان عليه أن يمر بطرق تمتد ١٠ كيلومترات للوجود في مناطق انتشار جنوده. في سيارته الـ«بيك آب» كان هناك جنديان يرافقان الضابط معنا في الجولة.

قال خليل: «نحن نحاول التعايش مع ظروف قتال في مناطق منبسطة، خبرتنا تاريخياً تقوم على نمط الحرب في الجبال والوديان، واليوم نتعلم الكثير من قواعد الاشتباك في مناطق صحراوية».

لكن الحرب الكردية في الصحراء لا تواجه الأخطار الجغرافية المختلفة، بل أيضاً التعاطي مع السياسة المركبة في العراق في كثير من الأحيان، وعقد اتفاقات حذرة مع المكونات الأخرى على طول الخط.

في الطريق توقف العميد خليل عند نقطة للشرطة المحلية، كان هناك شرطي من العرب السنّة يعمل مع قائد الشرطة الكردي سرحد قادر. سأله عن الوضع تلك الليلة، وعما إذا كانت هناك «تحركات مريبة»، فنحن الآن على طريق يسلكه مسلحو «داعش».

على مقربة من حاجز الشرطة كان هناك مخبز صغير، وثمة سكان يتجمعون لشراء الخبز، بدا من زيهم التقليدي أنهم من العرب. سألنا أحد الرجال عن انسحاب «داعش»، قال: «لا أعرف شيئاً، ما يهم الناس هو أن تشتري الخبز وتعود إلى منازلها بأمان».

والحال، أن عدداً كبيراً من العرب السنّة رحل مع مسلحي «داعش»، ففي بعض المناطق ثمة شخصيات عشائرية منخرطة في التنظيم.

في المقابل، ثمة صنفان من العرب السنّة في مقدورهما البقاء في مناطقهم في كركوك، حتى مع سيطرة قوات البيشمركة:

أولاً: العرب السنّة الذين ينتمون إلى قبائل معروفة لديها اتفاقات ضمنية مع قوات البيشمركة، ويلعب هؤلاء أدوار وساطة بين «الدولة الإسلامية» و«البيشمركة» في بعض الأوقات لمقايضة أسرى الطرفين، مقابل تنعمهم بالحماية. وتحتاج البيشمركة «صداقات» مع العرب للمساعدة في اكتشاف الخلايا النائمة، ويقول شوان قادر، وهو عنصر استخباري كردي: «نحن هنا في منطقة عربية، ونحاول معرفة البيئة الأمنية التي تحيط بنا».

ثانياً: عائلات عربية لديها مصالح تجارية، وتعليم ووظائف حكومية في كركوك ليست مستعدة تماماً لتغيير حياتها.

عبرنا حاجزاً لقوات البيشمركة، كان يرفع علم الحزب الديموقراطي الكردستاني، في حين ينتمي الضابط والجنود الذين نرافقهم إلى حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. تبادل الكرديان المختلفان سياسياً في كردستان تحية حذرة، ومضى خليل في طريقه. ساد صمت طويل، قبل أن يقول الجندي الكردي، ويدعى أبو أسود: «سلاحنا ليس بالقدر الذي نالوه (بيشمركة الديموقراطي) من تجهيز... انظر هذا هو أقوى سلاح لدينا... جيش شعبي»، وهو اسم أطلقه الكرد على بندقية تشيخية كانت بحوزة جيش نظام صدام حسين.

يبدو أن الكرد لا يقلقون فقط من المكونات القومية الأخرى، بل من بعضهم بعضاً. هنا في كركوك المدينة نفوذ معروف لحزب جلال طالباني، لكن حزب رئيس الإقليم لا يفوت فرصة لقضم شيء من هذه المساحة السياسية المهمة بالنسبة للكرد. وعلى طول القرى المحررة في جنوب كركوك كانت بيشمركة الاتحاد الوطني هي القوة الغالبة، لكن قوات مسعود بارزاني تحاول مسك المتاح من الأرض.

التوازن الكردي - الكردي في كركوك حذر أيضاً، ومحفوف بأخطار النزاع، على رغم أن «هدنة سياسية» قائمة تغطي على مستقبل محتمل من النزاع، فالمحافظ من حزب جلال طالباني، وقائد الشرطة من حزب مسعود بارزاني.

هذه آخر ليلة على خط التماس جنوب كركوك مع «داعش»، ومن غرفة نوم جنود كرد، كانوا يتحدثون عن ترتيب إجازاتهم ليتمكنوا من الذهاب إلى عائلاتهم، كان صوت قذائف الهاون بدأ بكثافة، تحرك الجميع إلى الخنادق، وبدأت المدفعية تطلق النيران على الجبهة المقابلة حيث «داعش»، وبين النيران المتبادلة كان لهب حقل للنفط لا يزال يتصاعد كأرض حرام يخشى الجميع أن يصلها النزاع المسلح في المستقبل القريب.