التاريخ: كانون ثاني ١٢, ٢٠١١
 
التسوية في لبنان هل تطيح الحقيقة والعدالة؟

الاربعاء, 12 يناير 2011

فوزي زيدان *


التسوية في المفهوم المتداول هي التوصل إلى حل سلمي حول مسألة أو مسائل خلافية بين فريقين أو أفرقاء ، يقدم خلالها كل فريق بعض التنازلات عن ما يعتقده حقاً له، وقد تجرى المفاوضات بين الأفرقاء المتنازعين بصورة مباشرة أو من خلال وسطاء. وتتمحور المسألة الخلافية في لبنان حول كشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حيث تتباين وجهة نظر فريقي النزاع حول الحقيقة نفسها، التي يطالب كل منهما بكشفها ومعاقبة الفاعلين.


واندفع الفريق الذي يمثل غالبية اللبنانيين ويقوده «تيار المستقبل» بإلصاق الجريمة بسلطة الوصاية السورية، كونها كانت وقت حدوث الجريمة تسيطر على المؤسّسات الأمنية في لبنان وتتحكم بقراره الوطني ومفاصله الرئيسة، وللقهر والإذلال اللذين تعرض لهما من أجهزتها الأمنية، والضغوط المريعة التي مارستها على الرئيس رفيق الحريري من أجل الموافقة على تمديد ولاية رئيس الجمهورية السابق إميل لحود. ورفض أن يتولى القضاء اللبناني التحقيق في الجريمة، بسبب إمساك سلطة الوصاية بمراكز القرار فيه واحتمال تعرض القضاة النزيهين إلى الضغوط والتهديدات، ما يمنعهم من القيام بواجبهم المهني بصورة سليمة، وكان دليله على ذلك فشل المجلس العدلي اللبناني من إصدار أي حكم في القضايا التي عرضت أمامه. وطالب بتحويل الجريمة إلى لجنة تحقيق ومحكمة دوليتين.


ويضع هذا الفريق آماله في المحكمة الخاصة بلبنان لكشف المتورطين في جرائم الاغتيال. ويرى أنها تتعاطى في تحقيقاتها بمهنية عالية وصدقية متناهية وحيادية كاملة، خصوصاً أنها تضم قضاة من جنسيات مختلفة يتمتعون بالكفاية والنزاهة والشفافية ويحرصون على سمعتهم ورصيدهم، ولا يجد في الوقت الراهن أي سبب للتشكيك في أدائهم. وهو ينتظر القرار الاتهامي وبدء المحاكمة ليبني على الشيء مقتضاه.


في المقابل، دافع الفريق الآخر، الذي يمثل الأقلية ويقوده «حزب الله»، عن دمشق ورفض اتهامها بالتورط في الاغتيال. وعارض تشكيل لجنة تحقيق دولية، خوفاً من نبش ملفات تفجير السفارة الأميركية وثكنات القوات المتعددة الجنسيات في بيروت التي قتل بنتيجتها مئات الجنود الأميركيين والفرنسيين، وعمليات خطف الأجانب وتصفيتهم. وطالب بتشكيل لجنة تحقيق عربية، على رغم التطمينات التي أعطيت له بأن اللجنة الدولية لن تتطرق إلى أي ملف آخر. لكنه ما لبث أن وافق مكرهاً على التحقيق والمحكمة الدوليتين، نتيجة تغير الظروف اللبنانية والإقليمية والدولية يومذاك وانعكاسها السلبي عليه.


ولم يستسلم هذا الفريق للضرر الذي لحق به، نتيجة انقلاب الأوضاع اللبنانية لغير مصلحته ومصلحة حليفته دمشق، واستلام الفريق الآخر زمام السلطة بعد فوزه في الانتخابات النيابية التي تلت انسحاب القوات العسكرية والأمنية السورية من لبنان، فعمد إلى تمتين قاعدته وحصر قرار الطائفة الشيعية به ورص صفوفها، تحت شعار حماية المقاومة من المؤامرة التي تدبر ضدها والمحافظة على مكتسبات الطائفة.


ثم ما لبثت الأوضاع الإقليمية أن انقلبت لمصلحته ومصلحة حليفتيه الإقليميتين دمشق وطهران بعد عدوان تموز (يوليو) 2006، الذي لم تتمكن إسرائيل من خلاله تحقيق أهدافها المعلنة ضد «حزب الله»، نتيجة صموده ومقاومته الشرسة للعدوان. وعاد الحزب بعد الحرب وانتصاره المعنوي على إسرائيل، إلى توجيه اهتماماته نحو الداخل اللبناني، فانقلب على موافقته في مؤتمر الحوار الوطني على المحكمة الدولية، وحاول من خلال الاعتصام الطويل في وسط بيروت ومحاصرة السرايا الحكومي إسقاط حكومة الغالبية النيابية برئاسة فؤاد السنيورة. لكن محاولته باءت بالفشل نتيجة صمود السنيورة والغالبية والدعم العربي والدولي للحكومة اللبنانية. لكنه عاد وحقق في اتفاق الدوحة الذي تلى اجتياحه العاصمة بيروت عام 2008 مكاسب أساسية، وضعته في موقع القوة السياسية الرئيسة المتحكمة في مسار الدولة.


ويرى هذا الفريق أن المحكمة الدولية أميركية – إسرائيلية، هدفها إلصاق تهمة اغتيال الحريري بـ»حزب الله» ونعته بالإرهاب، من أجل تشويه سمعته في العالمين العربي والإسلامي ولدى المتعاطفين معه في باقي أرجاء العالم. وهو يكيل للمحكمة وقضاتها وللمدعي العام فيها دانيال بلمار وكل مؤسّساتها، أقسى صفات الإدانة، فهي فاسدة ومسيسة وظالمة ولا تهدف إلى العدالة، وبالتالي قراراتها مرفوضة ولاغية وباطلة. ويعتبر أن عدم أخذ المحكمة بالقرائن، التي أشار إليها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في إحدى إطلالاته التلفزيونية التي تدين إسرائيل بعملية الاغتيال، خير دليل على انحياز المحكمة.


وبالعودة إلى التسوية التي تسعى الرياض ودمشق للتوصل إليها، من أجل ترسيخ الاستقرار الأمني في لبنان ودرء تداعيات القرار الاتهامي المرتقب صدوره عن المحكمة الخاصة بلبنان خلال الأسابيع المقبلة، فالمعلومات حول مضمونها قليلة وغير مؤكدة، حيث يتم التواصل في شأنها بين العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد وحلقة ضيقة جداً من المستشارين المقربين. وما يتداول حولها ما هو إلا عبارة عن تحليلات إعلامية وتسريبات من جهات متضررة من حصول التسوية. وإن ما تقوم به الرياض ودمشق هو عبارة عن تبادل مجموعة من الأفكار بينهما للحؤول دون توتر لبناني يجنح بالبلاد إلى العنف، مع إعلان لائحة الاتهام في القرار الذي سيصدر عن المدعي العام الدولي. ويعود عدم تسمية الأفكار المتبادلة مبادرة إلى الخوف من فشلها في تحقيق أهدافها، نتيجة الصعوبات التي تواجهها العاصمتين في إقناع حلفائهما في لبنان، ودخول طهران وواشنطن على خط المساعي العربية في محاولة لعرقلتها أو لفرض شروطهما.


ويسير الفريقان اللبنانيان في خطين متوازيين، يستحيل التقاؤهما عند نقطة واحدة، ما يجعل من التسوية العادلة أمراً في غاية الصعوبة. ويعود ذلك إلى تمسك «حزب الله» بمطالبه التعجيزية المتمثلة بإعلان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري رفضه سلفاً القرار الاتهامي والدعوة إلى عدم إصداره، ونزع الشرعية اللبنانية عن المحكمة وعدم التعاون معها، وسحب القضاة اللبنانيين المشاركين فيها، ووقف المساهمة في تمويلها، من جهة، وإصرار الحريري على عدم اتخاذ أي موقف من القرار الاتهامي قبل صدوره، والتمسك بالمحكمة الدولية من أجل كشف الحقيقة ومحاسبة المتورطين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والجرائم المترابطة، من جهة أخرى.


ونأمل بأن تصب أفكار الرياض ودمشق في تسوية تندرج تحت عنوان: لا تجهيل للحقيقة أو طياً للعدالة، مقابل لا ظلم للمتهمين أو تسييساً للاتهامات. وأن يعود «حزب الله» عن قراره بإسقاط المحكمة الدولية، لأنها أصبحت أمراً واقعاً وفي عهدة المجتمع الدولي الذي أعلن أكثر من مرة أنه لن يتخلى عنها. بينما يثير تمسكه بقراره الشكوك والشبهات حول دوره في جريمة الاغتيال، مما لا يصب في مصلحته أبداً. وأن يتعامل مع القرار الاتهامي إذا كان متماسكاً بطريقة سلمية وحضارية، ومقارعته في المحكمة الدولية بالأدلة والقرائن المضادة، وبالنتيجة فإن على المتهم الذي تثبت إدانته تحمل نتيجة عمله. وإننا وإن كنا نتفهم هواجس «حزب الله» من الضرر الذي سيسببه له احتمال اتهام بعض عناصره بالتورط في الاغتيال، لكننا نرفض طريقته في التعامل مع هذه القضية بالتهديد والهروب إلى الأمام.


فهل يتجاوب «حزب الله» مع المساعي التوفيقية التي تحقق العدالة والاستقرار وتحيّد سلاح المقاومة عن التجاذبات السياسية اللبنانية، أم يبقى على إصراره على تسوية تتضمن تنازل الحريري عن حقه في معرفة قتلة والده والشهداء الآخرين ومحاسبتهم، وسيطرة الحزب وحلفائه ورعاته الإقليميين على قرار الوطن ومقدراته؟

* كاتب لبناني