بقلم خير الدين حسيب
ابتداء من مطلع 2011 أترك مسؤولياتي كمدير عام لمركز دراسات الوحدة العربية وكرئيس تحرير لمجلة المستقبل العربي لتنتقل الى غيري (الدكتور يوسف الشويري)، عملا بمبدأ التداول المؤسسي، بعد ان شغلت المهمتين معاً لمدى ثلاثين عاما وكنت قد حاولت، منذ سنوات عدة، ان اتخفف من اعباء هذه المسؤوليات في المركز كي اتفرغ لانجاز جدول اعمالي العلمي الشخصي المؤجل طيلة كل هذه السنوات، غير ان اخواني اعضاء "مجلس الامناء" و"اللجنة التنفيذية" كانوا – كلما تعذر الاتفاق بينهم على مدير جديد – يضعونني امام خيار التمديد مراهنين فيه، وفي قبوله، على حرصي على تجنيب هذه المؤسسة العلمية العريقة تبعات حال الفراغ. واذ اهتدينا اخيرا، الى الاتفاق على اختيار الدكتور يوسف الشويري لهذا المنصب، لما يتمتع به من سمعة علمية واخلاقية عالية في العمل وفي العلاقة بالمجتمع الثقافي العربي، سأظل حريصا على نجاحه في اداء عمله من موقعي كرئيس لمجلس امناء مركز دراسات الوحدة العربية في الوقت الحاضر، واضعا خبرتي بتصرفه وبتصرف المركز.
ليس لي، في مثل هذا المقام، ان اتحدث عن نفسي وعما قمت به في المركز طيلة هذه العقود الثلاثة المنصرمة، اترك لغيري من الاصدقاء والقراء الكرام ان يفعل ذلك كما تقتضي الاصول. ولكن ما يسعني ان اقوله، بكل اطمئنان، انني اشعر بالرضا عما بذلته من جهد لأخدم قضية البحث العلمي من خلال مركز دراسات الوحدة العربية، ولأكرس المركز – مع من عملوا معي فيه – منارة فكرية في المجتمع العربي المعاصر، وفي الساحة الثقافية والعلمية فيه على نحو خاص. ولقد كان في الوسع فعل اكثر مما قدمنا حتى الآن لو كانت ظروف المركز المالية تُسعف. ولست افشي سراً حين اقول ان المركز عانى الضائقة المالية – طيلة العشرين عاما الماضية – اكثر مما عانى الرقابة على مطبوعاته، وان هذه الضائقة اوشكت – في مناسبات عدة – على دفعنا الى اتخاذ قرار اغلاقه، ولولا بعض الارادة والعناد الايجابي ومبادرات الخيرين من ابناء الامة بدعمه، ولو باليسير من التبرعات لكان امره انتهى منذ زمن. وهذه واقعة تكفي لبيان مقدار ما يعانيه البحث العلمي حصارا وتضييقاً في وطننا العربي، ورغبة كثيرين في انضاب ينابيعه!
ولكن من اهم ما افصحت عنه تجربة المركز ومعها "المستقبل العربي" انه "اذا توفرت الارادة فان هناك غالبا وسيلة لتحقيق الاهداف" وكما يقال بالانكليزية Where there is a will there is a way هذا ما اثبته المركز، فمنذ تأسيسه لم يكن لدى مؤسسيه غير الفكرة، ولكن الاصرار والارادة اثبتا ان من الممكن تحقيق قيام مركز فكري عربي مستقل يخدم قضية الوحدة العربية بمفهومها الواسع، وامكن تحقيق استقلاله الفكري والسياسي والمالي. وهذا ينطبق ايضا على مجلة المركز "المستقبل العربي" التي استمرت تصدر بانتظام منذ صدورها عام 1978 حتى الآن وبدون توقف وحتى خلال "الحرب الاهلية" حيث ظلت تصل الى قرائها، ورغم اقفال مطار بيروت اكثر من مرة، في حين توقفت مجلات فكرية عربية اخرى ولم تستطع الصمود.
قد تكوّن وجداني، منذ ما يزيد على ستين عاما، على الآمال العظيمة: الامل في رؤية الامة العربية موحدة، الامل في ترشيد المشروع القومي نحو المزيد من المضمون الديموقراطي، الامل في بناء كتلة تاريخية تجمع القوى الحية في الامة على مشروع اجتماعي – سياسي مشترك، الامل في بناء مشروع نهضوي جامع، الامل في كسب معركة التقدم ضد الاحتلال والتجزئة والتبعية والاستغلال واللامساواة، الامل في انتشار العلم والثقافة وازدهار البحث العلمي... الخ لكني تعلمت في الوقت عينه، ومن خلال التجارب المرة، كيف اكون واقعياً ولكن بدون الاستسلام للواقع على حساب الطموح، فلا يجنح بي الخيال بعيدا عن الواقع والممكن، ولكن من دون ان افقد الامل، لأنه وحده البوصلة التي بها يهتدي الانسان في المحيط المضطرب. ولولا ان في النفس بقية من امل، لما كان لي ان اكرس كل هذا الشطر من حياتي لمركز دراسات الوحدة العربية ولغيره من المؤسسات، ولما شغلني ان اكرس جديداً لانشاء جامعة مستقلة في بيروت للدراسات الاجتماعية والانسانية، يجري حاليا اعداد دراسة الجدوى لها، وهي جامعة للنخبة، طلابا واساتذة، وذات طابع عربي، لتخريج قيادات عربية. واذ اودع المنصبين العلميين (مدير عام المركز ورئيس تحرير مجلته) لا اودع القراء والاصدقاء، فلي معهم مواعيد اخرى بعناوين اخرى.
مجلة "المستقبل العربي" عدد كانون الثاني 2011
|