التاريخ: كانون ثاني ٥, ٢٠١١
الكاتب:
 
حقوق الإنسان أمام مرحلة جديدة

د. سليمان صويص


ما هو مستقبل حقوق الإنسان في العالم ؟ أصبح هذا السؤال يؤرق الملايين في العالم الذي يدخل بعد أيام في عشرية جديدة من القرن الواحد والعشرين. ويزداد الأرق والقلق أكثر فأكثر عندما يستعرض المراقب مسار حقوق الإنسان في البلدان العربية خلال العقد الاول من القرن المذكور.


 خلقُ بؤرِ التوتر وتأجيجُ النزاعاتِ والحروب، غالباً تحت شعار 'مكافحة الإرهاب'، كان الطابع الأول الذي وسم العقد المنصرم. من العراق إلى أفغانستان، مروراً ببلدان أخرى عديدة، تفاقمت انتهاكات حقوق الإنسان التي شملت ملايين البشر وقوضت أمن ملايين أخرى، وأدت إلى قتل مئات الآلاف من الأبرياء وسجن وتعذيب عشرات الآلاف. وإلى جانب الدول والحكومات المسئولة عن هذه الاوضاع الخطيرة، تتحمل المسئولية عنها أيضاً منظمات لجأت إلى العنف المسلح تحت يافطات وحجج مختلفة.


السمة الثانية تمثلت في النمو الاقتصادي الهائل الذي شهدته آسيا خلال العقد المنتهي. كان هذا النمو مفيداً ولاشك للعالم ولشعوب بلدان القارة، خاصة الصين والهند (يضمان نصف سكان الأرض تقريباً)، لكنه ترافق مع تفاقم التفاوت في توزيع الثروات ولم ينعكس دائماً على الأوضاع المعيشية وعلى تحسين مستوى إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لقطاعات واسعة من السكان. بالمقابل، انتشل النمو الاقتصادي والسياسات الاجتماعية المتوازنة بضعة عشرات الملايين من السكان من وهدة الفقر، خاصة في البرازيل.


الأزمة المالية ـ الاقتصادية العالمية التي يبدو أن الاقتصاد العالمي لم يتعافى منها بعد شكلت السمة الثالثة لهذا العقد. انعكست آثار هذه الأزمة على حياة مئات الملايين من البشر، خاصة في بلدان العالم الغربي والصناعي المتقدم، بصور مختلفة من بينها زيادة نسب البطالة والحد من الانفاق الاجتماعي وارتفاع تكاليف المعيشة إضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي. وقد أثارت هذه كلها حركات احتجاجية شارك فيها ملايين المواطنين، خاصة في أوروبا.


بالرغم من احتفال العالم بذكرى مرور ستين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل عامين (2008)، إلا أن العديد من هذه الحقوق لا يزال في عداد 'الاوهام' بالنسبة لأكثر من نصف سكان الكرة الارضية. على سبيل المثال لا الحصر : لا يزال نحو مليارين من البشر محرومين من المياه الصالحة للشرب ومن خدمات الصرف الصحي ؛ ونصف هؤلاء على الأقل يعاني من سوء التغذية والجوع، هذا عدا عن مئات الملايين الذين لا يزالون حتى الآن محرومين من خدمات التعليم والصحة، ناهيك عن الفقر والبطالة اللذين ينخران مجتمعات كثيرة في العالم، بما فيها المجتمعات المتقدمة. أما عن الفساد المالي والإداري للأنظمة الحاكمة، وازدهار تجارة السلاح والمخدرات وتجارة البشر والدعارة وانتشار الجريمة بنسب مرتفعة فحدّث ولا حرج ـ كما يقال ! يضاف لذلك كله ـ وهذا ينطبق بشكل خاص على أنظمة البلدان العربية ـ القمع السياسي وغياب أو ضعف حرية التعبير والعنف ضد المرأة والاعتقال والقتل خارج نطاق القضاء.


إن العديد من الانظمة العربية التي كانت ـ وربما لا تزال ـ تتبجح بشعارات حقوق الإنسان قد أدارت ـ على أرض الواقع ـ ظهر المجن لهذه الشعارات، وأصبحت لا تخجل من ممارسة شتى صنوف القمع السياسي لكل من يعارض سياساتها. وبلغ بها الصلف أن تدير الظهر للدساتير الأصلية وأن يسعى زعماؤها غلى 'توريث' أبنائهم ـ وهم في أنظمة جمهورية ـ رئاسة الدولة بمختلف أساليب التزوير والقمع والديماغوجية. ولا تتوانى الأنظمة العربية أن تساند بعضها بعضاً في المحافل الدولية، كمجلس حقوق الإنسان في جنيف مثلاً، حيث يقف مندوب الدولة (س) ليشيد ب'إحترام حقوق الإنسان وتطور الديمقراطية' في الدولة (ص) ؛ ويتم تبادل 'شهادات' النفاق والدفاع عن انتهاكات حقوق الإنسان بين مندوبيها جهاراً، على الرغم من التوثيق الدقيق لهذه الانتهاكات في تقارير المنظمات المحلية والدولية.


من الواضح أن أطنان الأوراق التي تتحدث عن حقوق الإنسان، وآلاف المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية لم تتمكن من إحداث تغيير جوهري في الواقع المؤلم، خلال العقود الثلاثة الماضية، بما فيها العقد الذي يوشك على الإنتهاء. ومن الواضح أيضاً بأن الدول والحكومات لا تقيم وزناً لتلك المؤسسات والمنظمات والجهود التي تبذلها من أجل إعمال وتطوير حقوق الإنسان.
لقد أدى هذا الواقع، في النصف الثاني من العقد، إلى بروز حركات اجتماعية وسياسية مستقلة عن الأحزاب التقليدية القائمة، وأيضاً عن منظمات حقوق الإنسان. هذه الحركات 'فهمت' الدرس جيداً، وأطلقت نضالاتها المطلبية مباشرة في مواجهة الحكومات، في الشارع وبين المواطنين وعلى صعيد وسائل الإعلام. وبذلك أعادت هذه الحركات (وآخرها في تونس) الأمور إلى نصابها الصحيح : مواطنون محرومون من الحقوق ومستغلّون في مواجهة حكومات قمعية متسلطة.


إن انتزاع الحقوق يتوقف على تطوير أشكال النضال الشعبي وخوض الصراع على أسس ومفاهيم ديمقراطية واضحة وحقيقية؛ أما 'النقابات المزورة' التي تتلاعب بها أجهزة المخابرات وتفرض عليها القيادات التي تريدها، فإن بإمكانها أن 'تتفرج' على النضال الشعبي، هذا إذا لم تتواطأ مع الحكومات ضده !
إنه طريق جديد لإنتزاع الحقوق ؛ يثبت واقع تفاقم القمع، ومن خلال التجارب المريرة، أن جميع الطرق الأخرى تقود إليه !