التاريخ: شباط ٢٨, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الثورة الشعبية في ليبيا حصيلة عقود من القمع والفقر والتهميش

كتبت رندة حيدر:
ليست الانتفاضة الشعبية في ليبيا وليدة الأيام أو الأشهر الماضية، وان كانت مشاهد التظاهرات في "ميدان التحرير" المصري وفي تونس قد ألهبت بالتأكيد نفوس الليبيين الذين خرجوا الى العلن يهتفون بسقوط الطاغية. فالتململ الشعبي نتيجة الضائقة الحياتية وانعدام العدالة الاجتماعية وعدم التكافؤ في الفرص، ناهيك عن المعاناة الطويلة من القمع الذي مارسه القذافي، والفوضى المستشرية في ادارة البلاد نتيجة تعطيل العمل بكل القوانين، واستباحة المال العام... كل ذلك يعود الى وقت طويل قبل التظاهرات. فقد بدأت تباشيره في الثمانينات وأخذ يتوسع ويكبر ليشمل فئات عريضة من الليبييبن مع التسعينات، حتى الانتفاضة الأخيرة. واذا كان لا بد من نقطة تحول تفجر الغليان الشعبي، فان مشاهد الجماهير الغاضبة وهي تُسقط نظام زين العابدين في تونس، وتطيح بنظام حسني مبارك، قد أخرجت المارد الليبي من القمم الذي سجنه القذافي فيه طوال 42 عاماً.


أظهرت الأيام الماضية أن الانتفاضة الليبية على حكم القذافي هي الأصعب والأعقد والأكثر دموية، نظراً لما فعله خلال العقود الأربعة من حكمه، من تفتيت للنسيج الاجتماعي القبائلي وإعادة تركيبه من جديد بصورة تجعله مرتبطاً بالنظام، ومنحه المدن الكبرى ما يشبه الحكم الذاتي الأمني، وارساء الحياة الاقتصادية في ليبيا على مبدأ توزيع الثروات، مما جعل الناس مرتبطين بما تقدمه الدولة لهم في ما يشبه الاقتصاد الريعي؛ ناهيك بالتجربة الطويلة لنظام القذافي في التلاعب بالرأي العام والقمع وكم الأفواه والتخلص من الخصوم والمعارضين. وتأليب القبائل بعضها على البعض، وتجنيد الليبيين ضد اعداء حقيقيين ووهميين...


وقام القذافي في السنوات الأخيرة ببناء شبكة علاقات مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، تقوم بالدرجة الأولى على المصالح الاقتصادية الاستراتيجية، وذلك بعد سنوات طويلة كانت فيها ليبيا نموذجاً فريداً للدولة المارقة، ومن أبرز الدول المعادية لأميركا ولبعض الدول الغربية.
نجح القذافي في كسب ثقة الغرب مجدداً، من خلال اعلانه التخلي عن مشروعه لانتاج أسلحة الدمار الشامل، والانضمام الى الجهود التي يبذلها الغرب في محاربة الارهاب، ومساهمته في التصدي لموجات الهجرة غير الشرعية الى أوروبا. من هنا الصمت الأوروبي المريب الذي ساد في الأيام الأولى للانتفاضة في ليبيا، وتردد الولايات المتحدة في اتخاذ موقف واضح وصريح ضد أعمال قمع المدنيين كما فعلت مع المحتجين في مصر. ولم يتحرك المجتمع الدولي بصرامة ووضوح الا بعدما تبين له ان القذافي يرتكب مجزرة بحق شعبه، وأن ما يجري ليس عملية قمع وانما هو جريمة ضد الانسانية، وأن القذافي هو طاغية هذا العصر بامتياز.

بدايات تفكّك نظام القذافي
يمكن القول أنه، من بين الأسباب التي ساهمت في تفكك وتصدع نظام العقيد القذافي، بالاضافة الى تراكم الأخطاء والخسائر في سياساته الخارجية التي أدت الى عزلة ليبيا دولياً، هو التدهور المستمر في مستوى الحياة في ليبيا في أعقاب الحظر الأميركي عليها في الثمانينات. اذ تشير الأرقام الى أن مداخيل النفط الليبية انخفضت نتيجة لذلك بصورة كبيرة، فبعدما بلغت 22 ملياراً السنة 1980، اذ بها تتراجع الى 10 مليارات في 1985. وفاقم قرارا مجلس الأمن الصادران سنتي 1992 و1993 بفرض حظر بيع الأسلحة الى ليبيا وتجميد أرصدتها في الخارج، في إحداث المزيد من التدهور في الأوضاع المعيشية التي يعانيها الشعب الليبي جراء الارتفاع الكبير في أسعار السلع، وتدهور قيمة العملة، ونشوء السوق السوداء وبروز طبقة جديدة من التجار ورجال الأعمال من الأثرياء الجدد، بالتواطؤ مع اللجان الثورية وأجهزة النظام التي قامت باستغلال الحظر والالتفاف عليه وأنشأت سوقاً سوداء لتهريب البضائع الى ليبيا بأسعار خيالية.
هذا الأمر زاد الهوة ما بين طبقات المجتمع في ليبيا، فبرزت طبقة غنية تعيش في طرابلس، مقرّبة من النظام وتتمتع بحمايته، في مقابل طبقة من الفقراء والمحرومين، لا سيما في المناطق الليبية الشرقية التي شكلت نواة الانتفاضة الحالية.


وتُظهر الأرقام أنه ما بين 1992 و1997 ارتفعت أسعار السلع في ليبيا بمعدل 200 في المئة، ولم يعد الحد الأدنى للأجور والبالغ 250 ديناراً ليبياً (يساوي في السوق السوداء لصرف الدولار نحو 80 دولاراً) يستطيع تغطية نفقات الحياة الباهظة. ناهيك عن أن مبدأ توزيع الثروات، الذي انتهجه القذافي في بداية حكمه والذي يقوم على منح الناس تقديمات كبيرة ومساعدات مالية، لم يعد قائماً، نظراً للأعباء المالية المترتبة على الحظر وسوء الادارة والفساد وانتهاك المال العام.


وكانت اكثر المناطق معاناة هي المناطق الشرقية، حيث برز النقص الحاد في الحصول على المواد الأولى مثل الخبز واللحم، فانتشرت البطالة وازدادت النقمة على النظام، وشكل كل ذلك البشائر الأولى للانفجار الشعبي ضد النظام الذي، في رأي الليبيين، يقوم بإفقار شعبه، ويدفع المليارات من الدولارات لشراء رضى العالم الغربي. الى جانب تدهور سعر صرف الدينار الليبي، ونشوء السوق السوداء وعمليات التهريب، بدأ التجار الليبيون يبيعون المواد المدعومة من الدولة الى التجار الأجانب للحصول على عملة أجنبية حارمين منها السكان، وذلك بتواطوء كامل من اللجان الثورية والأجهزة الاستخباراتية التي كانت تأخذ حصة من أرباح هؤلاء التجار. وشيئاً فشيئاً بدأت الدولة تفقد قدرتها على السيطرة على المجتمع، فيما بدا ان ليبيا تحولت، كما يقول لويس مارتينيز في دراسة له عن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في ليبيا، الى"مجتمع حر ضمن دولة لا وجود فيها للدولة".

مالطا والشباب الليبي
يشكل الشباب في ليبيا 60 في المئة من مجموع السكان، وعلى الرغم من أن أوضاعهم تبقى أفضل من أقرانهم في تونس والجزائر، لكنهم يعيشون حال اغتراب كاملة وانقطاع مع النظام السياسي في بلادهم. وقد شكل هؤلاء، لا سيما الفقراء من سكان المنطقة المحيطة بمدينة بنغازي، البؤرة التي انطلقت منها الاحتجاجات.
من ناحية أخرى، وفي مقابل هذا الواقع، نشأت ظاهرة أخرى بين الشباب الليبي نتيجة التغير الذي طرأ على الحياة الاقتصادية للبلاد. فمنذ الاعلان عن الحظر الدولي على ليبيا عام 1992، تحولت جزيرة مالطا المكانَ المفضل للشباب الليبي الساعي الى الثروة السريعة. كان في امكان هؤلاء الدخول الى الجزيرة من دون تأشيرة، والقيام بشراء البضائع الأوروبية والأميركية وادخالها الى ليبيا عبر رشوة رجال الجمارك واللجان الثورية، وكل ذلك يجري بغض نظر من السلطات الليبية، ما أدى الى نشوء طبقة من الأثرياء الشباب، وعمّق الفجوة بين أفراد المجتمع الليبي. ففي الوقت الذي بقي راتب الموظف الليبي العادي لا يتجاوز 250 ديناراً ليبياً، كانت تتراكم ثروات هؤلاء الشباب جراء التجارة والتهريب في صورة خيالية. يقول موظف في أحد المصارف الليبية: "الشباب الذين يذهبون الى مالطا أثرياء جداً. هم لا يجمدون اموالهم أبداً يشترون كل شيء، وعندما لا يسافرون بأنفسهم الى مالطا يعطون الأموال لأصدقائهم كي يقوموا بالشراء لهم. وبفضلهم نستطيع أن نجد كل شيء في طرابلس، ولكن بأسعار باهظة".
كل ذلك زاد الشعور بالغبن من جانب فئات كبيرة في المجتمع الليبي، اضافة الى انعدام المساواة والتكافؤ في الفرص، بحيث كانت الفرصة للدخول الى الوظائف العامة او ايجاد عمل هو بقدر الولاء للنظام والقرب من حاشية القذافي.

بروز الميليشيا الإسلامية
 شكلت المناطق الفقيرة تربة خصبة لبروز نشاط التنظيمات الاسلامية في صورة خاصة في التسعينات وفي منطقة الجبل الأخضر. ومن أهم هذه التنظيمات: "المجموعة الاسلامية الليبية المقاتلة"، "الحركة الاسلامية للشهداء"، و"مجموعة أنصار الله". في عام 1996 قام سلاح الجو الليبي بقصف مواقع في الجبل الأخضر لهذه التنظيمات، ويقال أن الطائرات كانت بقيادة طيارين من صربيا. وتولت اللجان الثورية عملية محاربة نشاط الميلشيات الاسلامية التي أعلنت "الجهاد" ضد الجماهيرية الليبية في 1995. من الصعب تقدير دور هذه التنظيمات الاسلامية في الحوادث الأخيرة، ولكن اللافت أنها كلها تنشط في المناطق التي تشكل اليوم عصب الثورة. وتمكن الاشارة اجمالاً الى أن هذه الحركات الاسلامية لم تكن تتمتع بتأييد شعبي جارف داخل مناطق نفوذها، ولكنها كانت تحظى بالتعاطف معها اجمالاً، لا سيما بعد عمليات القمع التي تعرضت لها على أيدي السلطة.

لماذ يستخدم القذافي المرتزقة؟
كان على نظام القذافي الاعتماد على أجهزة قمع مضمونة وموثوق بها لمواجهة حركات الاحتجاج والتمرد الداخلية. ونظراً لكون الجيش الليبي يقوم على تركيبة قبائلية، كان من الصعب توليه مهمات قمع احتجاجات القبائل، فثمة احتمال كبير أن يكون من يقتلهم الجنود من أبناء عمومتهم. ناهيك بالشكوك الدائمة للقذافي في جيشه بعد محاولات الاتقلاب العسكرية الفاشلة التي قام بها هذا الجيش ضده في الأعوام السابقة والتي قمعها بوحشية. من هنا استخدام المرتزقة في عمليات القمع الداخلي، وهؤلاء من جنسيات مختلفة صربية وأفريقية، وحتى عربية. وقد برز واضحاً دور هؤلاء في عمليات القتل الجماعي التي نفذت في غير منطقة ليبية.
ان أخطر ما يمكن ان تتعرض له الثورة الليبية هو تحولها حرباً أهلية قبائلية بين المجموعات المعارضة للقذافي وتلك المؤيدة له، وهذا ما يسعى الى تحقيقة القذافي، ما يعني غرق ليبيا في حمام دم، لا سيما أن كل الناس في ليبيا مسلحون وبصورة خاصة بعد وقوع كميات كبيرة من الأسلحة في يد المنتفضين. واليوم الذي ستتحول فيه عمليات الاحتجاج المدني جبهات مسلحة بين مناطق نفوذ متقاتلة معناه وأد الثورة الشعبية، وموت الآمال الكبرى بالتغيير التي أحياها خروج الجماهير الليبية الى الشوارع وانتفاضها على حكم الطاغية. فغلبة الطابع القبائلي على التحركات الاحتجاجية لا يخفي الدور الكبير الذي تلعبه المعارضة السياسية الليبية في المنفى والتي يمكن أن تشكل جزءاً لا يتجزأ مع زعماء القبائل المنتفضه هيئة انقاذ وطنية لليبيا، على الطريق نحو قيام الحكم الديمقراطي الذي يحلم به الليبيون.

من هم أبناء القذافي ؟
محمد (40 عاماً) من زواجه الأول، وهو مدير شركة للاتصالات ويعيش بعيداً من الأضواء.
الساعدي (36 عاماً) لاعب كرة قدم سابق. يقال إنه كان المسؤول عن القمع الوحشي لحوادث شغب وقعت في بنغازي.
المعتصم بالله (34 عاماً) من كبار المؤيدين للقمع.
هنيبعل (33 عاماً) معروف بمغامراته وتسبب بأزمة مع سويسرا في أعقاب سجنه هناك بتهمة الاعتداء بالضرب على خدمه.
عائشة (33 عاماً) محامية كانت حتى وقت قريب سفيرة للنوايا الحسنة من جانب الأمم المتحدة.
سيف الاسلام (38 عاماً) الشخصية الصاعدة في نظام القذافي، حتى خطابه الأخير قبل أيام كان يلعب دور رجل الحوار المنفتح على الغرب.
خميس (29 عاماً) ضابط في الجيش معروف بعنفه، ومتهم أخيراً باعدام جنود رفضوا تنفيذ أوامره بقتل المحتجين.
اضافة الى ولد له بالتبني ويدعى ميلاد، وقد تبناه مع فتاة أخرى توفيت وهي صغيرة.

أموال دفعتها ليبيا تعويضاً
عن عمليات ارهابية اقرّت بالقيام بها
في 31/10/2008 أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن ليبيا دفعت 1,5 مليار دولار لصندوق تعويضات عائلات الضحايا الارهابية.
في 13/6/2010 ذكرت صحيفة الصنداي تايمز أن ليبيا ستدفع مبلغ 2,9 ملياري دولار الى أهالي ضحايا عمليات الجيش الايرلندي. بينها 800 دولار الى الضحايا الذين سقطوا نتيجة استخدام مادة السمتكس التي قدمتها ليبيا الى الجيش الايرلندي.
وكانت الحكومة الليبية وافقت على دفع مبلغ 2,7 ملياري دولار الى أهالي ضحايا طائرة لوكربي التي انفجرت في 21 /12 فوق مدينة لوكربي في إسكوتلنده السنة 1988 بسبب عبوة زرعها ليبيان جرت محاكمتهما دولياً.
في 2003 وافقت ليبيا على دفع مبلغ 35 مليون دولار لتسوية قضية تفجير ملهى "لا بيل" في برلين الغربية الذي يرتاده جنود اميركيون.

خريطة القبائل الليبية
المؤيّدة للقذافي والمعارضه له
القبائل المعارضة للقذافي هي الموجودة في المنطقة الشرقية الممتدة من حدود مصر وحتى خليج سرت. ومن أهم هذه القبائل: الكراغلة والتواجير والرملة والعواقير في منطقة برقة. وجميع هذه القبائل كان لها تاريخها في مقاومة الاستعمار، ومعروفة أيضاً بأنها تدعم النظام الملكي السابق، وهي تتزعم التحرك الثوري الأخير.
 أهم القبائل المؤيدة للقذافي هي تلك المنتشرة في الاقليم الغربي من طرابلس العاصمة حتى تونس. وتعتبر هذه المنطقة نقطة الثقل التي يعتمد عليها القذافي. وبالاضافة الى قبيلة القذافة والمقارحة اللتين تتقاسمان الثروات والمناصب. وهناك قبائل الصعيان والحوامد والنوايل. وكان لافتاً انضمام قبيلة الزنتان التي تقطن الجبل الغربي الى الثوار، ويبدو أن هناك احتمالاً أن تنقلب قبيلة المقارحة التي تسكن بالقرب من العاصمة على القذافي. ناهيك بالتهديد الذي أطلقته قبيلة زوية بوقف تدفق النفط الى البلدان الغربية اذا لم توقف السلطات قمع المتظاهرين.
أما منطقة فزان في الجنوب وهي التي تمتد حنوباً حتى تخوم النيجر ومالي والتشاد وتشمل مساحات صحراوية واسعة، فتسكنها قبائل المحاميد، والتبو، التي اعلنت انضمامها الى الثورة وأغلقت الحدود مع السودان وتشاد. وقبائل الطوارق التي أعلنت وقوفها ضد القذافي.