استغل النظام السوري مقالة «نعوات سورية» ليزج بالمعارض الراحل ميشيل كيلو في السجن لثلاثة أعوام بين 2006 و2009، إلى جانب توقيعه بيان «دمشق - بيروت» الذي دعا إلى إعادة النظر في العلاقات اللبنانية - السورية. لا تنطوي المقالة على انتقاد حاد لأي من شخصيات الحكم ولا لسجله في القمع ولا لفساده وفشله، بل كانت قراءة للواقع الاجتماعي السوري في عهد «البعث» وحكم حافظ وبشار الأسد.
تقارن المقالة بين نوعين من أوراق النعي التي يلصقها أقارب المتوفين على جدران مدينة اللاذقية التي وُلد كيلو وعاش أكثر حياته فيها. النوع الأول من النعوات يخص أهالي القرى والريف المحيطين بالمدينة وجُلّهم من العسكريين هم وأبنائهم وأقربائهم وأصهارهم، فيما تتخذ أسماء هؤلاء طابعاً يشير إلى الانتماء السياسي، حيث تكثر أسماء من نوع: «نضال، وكفاح، ورفيق، وحسن، وعلي»، فيما أسماء البنات تكون غالباً «ثائرة، ورفيقة». وغالباً ما تسبق هذه الأسماء رتباً عسكرية كـ: العميد والعقيد والمقدم المهندس، بحيث يبدو جلياً أن أكثرية عائلات الريف اللاذقاني تنتمي إلى المؤسسات العسكرية والأمنية وأنها منقطعة الصلة بالسكان المدنيين. في المقابل، تغلب أسماء: «محمد جمعة، ومحمد سالم، وعبد الرحمن، وعبد الغفور»، على المتوفين من أهل المدينة وأقاربهم الذين يعملون في مهن عادية كالتعليم والطب والتجارة، وترافق الأسماء ألقاب كـ«الحاج» و«الشيخ» و«التقي».
من ورقات النعوات يكتشف كيلو «أنك لست فقط حيال رجال فارقوا الحياة الدنيا، بل كذلك أمام وضع اجتماعي- سياسي- ثقافي وطني، بالأحرى لا وطني، تفضح الأوراق حقائقه المؤسفة والخطيرة، التي تكونت خلال السنوات التي قالت السلطة فيها إنها تبني عالماً من المساواة والإخاء والحرية والمواطنة، وتمحو الفوارق بين الريف والمدينة. عندئذ، ستهز رأسك بأسى، وستخشى ما تشي الأوراق به من مصير بائس ينتظر وطنك». يشير الكاتب الراحل إلى أن هذا الوضع الاجتماعي- السياسي يعلن عن انقسام طائفي لا يجرؤ السوريون على تناوله، ليس لجهلهم به، بل خوفاً من العقاب الشديد الذي ستُنزله السلطة بكل مَن يتحدث عن هذه الحقيقة؛ سلطة تقول إنها تبني عالماً من المساواة والإخاء والحرية والمواطنة.
وبعد عامين من خروج ميشيل كيلو من إقامته الأخيرة في السجن اندلعت الثورة السورية التي شهدت تحولات قاسية تشارك فيها التدخل الأجنبي الفاضح من انفجار المكونات الاجتماعية، الطبقية والطائفية والجهوية والإثنية، على نحو لم تعرفه أي من الدول العربية التي عاشت ثورات «الربيع العربي». وكانت مصارحة كيلو لمواطنيه بخطر التكتل والانغلاق الطائفيين اللذين قرأهما على أوراق النعوات، في مكانها. ذلك أن النعوات كشفت وجود عالمين متوازيين ومتصارعين لكل منهما طرق معاشه ولغته بل قيمه الموزعة بين العسكر والدين.
الأدعى إلى الأسى أن الكاتب علّق آماله بنجاة سوريا من الوقوع في «المصير البائس» على لجان كانت تعمل على تفعيل المجتمع المدني. وهي اللجان التي لم تصمد طويلاً أمام عواصف القتل والدم. أو لعل كيلو كان يخفف من سواد الصورة التي رسمها باختراع أمل أو وهم بإمكان تجنب الكارثة المقبلة إذا تخلى السوريون عن الطوائف وتشاركوا الدولة ومؤسساتها.
الغضب الذي أثارته المقالة هذه عند أجهزة المخابرات السورية يفسّره إصرار كثير من الأنظمة العربية على إبقاء الحقائق الاجتماعية والسياسية العميقة طيّ الكتمان. ليس صدفة أن كليات العلوم الاجتماعية في عدد من الدول العربية لا تعرف العمل الميداني والمسح الاجتماعي والتقنيات الإحصائية التي يُفترض أن تكون مسائل بدهية في كل بحث في أحوال المجتمع الذي تبغي دراسته. إبقاء الحقائق في الظلام خير وسيلة لإنكارها والتنصل من تبعاتها. وإخفاء الانقسام الطائفي بين اللاذقية السنيّة وريفها العلوي الذي انتقل أهله للسكن في شوارعها حاملين رتبهم العسكرية وأسماءهم الدالة على هوياتهم الطائفية والآيديولوجية، لم يَحتَج لفضحه أكثر من نعوات قرأها كاتب حاد البصيرة.
وعلى المنوال ذاته، تمضي دول عربية عدة في طمس كل ما يتعلق بشرعيتها وتوزيعها للثروة بل للوظائف العامة، وتستعين على ذلك بمنظومة معقّدة من وسائل الإعلام وأجهزة الأمن والمدارس والجامعات التي تعتمد التلقين بدل البحث النقدي لتنتج أجيالاً من الضباط والمهندسين ورجال الأعمال الذين ينضوون في عملية تأبيد السيطرة القائمة حتى لو كانت تمهد الطريق لانفجار لا يُبقي ولا يَذَر مثل الذي شهدته سوريا.
بل إن الأكثر صخباً بين المجتمعات العربية في ترويجه لما يدّعيه من انفتاح وتنوع وقبول بالاختلاف، أي المجتمع اللبناني، ما زال ممنوعاً عليه معرفة عدد سكان بلده خشية تصاعد التوتر الطائفي إذا اتضحت الفوارق بين أبناء الطوائف المختلفة. وهي كبيرة.
عليه، ما زال الكتّاب والمثقفون العرب ودارسو مجتمعاتنا في حاجة لقراءة أوراق النعوات الملصقة على الجدران أو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي للتعرف على الفئات التي تُمسك بالسلطة الحقيقية في البلاد ومن يكتفي من الغنيمة بلقب «الحاج» أو «المرحوم».
|