تتباين الآراء في توصيف درجة الإخفاق الذي آلت إليه ثورة السوريين بعد عشر سنوات من انطلاقتها، وتالياً في الإجابة عن سؤال: هل تم الإجهاز على هذه الثورة، وبتنا نعيش مناخ هزيمتها، أم أن ما تعانيه مجرد نكسات عابرة وتشوهات مؤقتة، يمكن تخفيف آثارها وتجاوزها؟
أمر مفسر أن يتهرب البعض من الاعتراف بالهزيمة متذرعاً بأن الخراب طال كل شيء، وبأن ليس ثمة منتصر أو مهزوم في صراع دامٍ مع نظام فقد شرعيته وعموميته وتهتكت مقومات استمراره، وبات يعاني أزمة حكم متعددة الوجوه، أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كما هو أمر مفهوم أن يرفض زعماء الجماعات الإسلاموية في شمال غربي البلاد وقادة القوات الكردية في شرقها، الإقرار بالهزيمة ما داموا قد حافظوا على رؤوسهم سالمة ويستطيعون الاستمرار في فرض تسلطهم وامتيازاتهم على مناطق سيطرتهم، لكن ما ليس مفسراً أو مفهوماً أن يمتنع معارضون سياسيون عن الإقرار بالهزيمة، منهم مَن لا يزالون يخوضون في مستنقع مفاوضات مذلة، ويستسلمون لتنازلات عن حقوق الشعب السوري، تكر كحبات المسبحة، في ظل توازن قوى بات يميل بشكل صارخ لمصلحة النظام وحلفائه، تحدوها حالة الضعف والتهتك التي تعتريهم وخضوعهم للإملاءات الخارجية، بينما تعجز المفاوضات عن التقدم خطوة واحدة نحو المعالجة السياسية، وحتى نحو تحقيق الحد الأدنى من المطالب الإنسانية المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمختفين قسرياً! ومنهم مَن لا يزال محكوماً بحالة من الإدمان على المبالغات والرهانات المضللة، وخَلَقَ آمالاً زائفة، مثلاً، على ما يحصل من خلافات بين أهل الحكم، أو على بعض التحركات الشعبية المعارضة للنظام في مدينتي السويداء ودرعا أو ضد الجماعات الإسلاموية في بلدات إدلب، أو على ثورة للجياع وشيكة في سوريا رداً على التدهور المريع للحياة المعيشية، ولا ضير، بين الفينة والأخرى، من إثارة التعويل على حصول توافق بين واشنطن وموسكو لإزاحة رموز النظام القائم وفرض التغيير السياسي، أو بث الأوهام عن أهمية تشكيل «مجلس عسكري» من ضباط المعارضة والنظام، يمكنه اختراق حالة الاستنقاع وقيادة المرحلة الانتقالية!
وفي المقابل تزداد أعداد المعارضين والناشطين السوريين الذين باتوا يقرون بالخسارة والهزيمة، وإذ لا تزال قلة منهم تأنف استخدام تعبير الهزيمة تحسباً من وقعها الثقيل والمحبط أمام التضحيات العظيمة للشعب السوري، فإن غالبيتهم بدأت تعترف بها جهاراً وتخوض غمار نقاشات جدية وجريئة لتحديد أسبابها، إنْ فيما يتعلق بالمسؤولية الرئيسية لنظام لم يكن يهمه سوى الاستمرار في السلطة، رفض كل التسويات السياسية واستجر مختلف أشكال الدعم الخارجي ودأب على تشويه الثورة السياسية وربطها بالإرهاب وجرها نحو حرب أهلية طائفية، متوسلاً أشد أساليب العنف والقهر وأشنع الاستفزازات المذهبية بالتواطؤ مع زعماء السلفية الجهادية الذين أطلقهم من سجونه، وإنْ فيما يتعلق بتخلي الثورة عن النهج السلمي واستسلامها للعسكرة، ما أفقدها تعاطف الرأي العام وقطاعات مهمة من الشعب السوري لها مصلحة بالتغيير الديمقراطي، لكنها ترفضه بلغة القوة والعنف، وإنْ بدور جماعات الإسلام السياسي والتطرف الجهادي التي نجحت في التغلغل بصفوف الثورة والعبث بمكوناتها ومصادرة روحها وقيمها، وإنْ بخذلان المجتمع الدولي لحقوق السوريين، بصمته عن التدخلات العسكرية الخارجية، وعجزه عن وقف العنف وحماية المدنيين، والأهم الواقع البائس للمعارضة السورية، التي فشلت في نيل ثقة الناس وقيادتهم، ولم تتمكن بائتلافها ومجالسها الوطنية من تنسيق نشاطاتها والظهور كقدوة ومثل يحتذى في السلوك الديمقراطي والمثابرة والتضحية، بل ضجت صفوفها بخلافات وتنافس مَرَضي ومؤذٍ على المناصب والامتيازات تحكمه الأساليب المتخلفة والمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار، ما كرّس تشتتها وضعفها، وتالياً هشاشتها وإخفاقها في تحمل مسؤوليتها التاريخية.
إن الجدل حول أسباب الهزيمة قاد إلى جدل حول مشروعية ثورة السوريين، إن كانت خياراً يمكنهم قبوله أو رفضه، أم رداً لازماً، تاريخياً وأخلاقياً، ضد نظام استبداد وفساد أوصل المجتمع إلى حالة لا تطاق من القهر والتمييز والعوز، كما قاد إلى جدل حول احتمالات المستقبل وما هو متاح لإعادة وجه الوطن ولحمة المجتمع وحماية ما راكمته الثورة وتضحيات أبنائها.
وبعيداً عن الدعوة للتمسك بالمسار التفاوضي وبقرارات المجتمع الدولي، والادعاء بأنهما الطريق الوحيدة المتوفرة للبقاء في حلبة الصراع السياسي وانتزاع ما يمكن انتزاعه من النظام وحلفائه، وبالضد من المطالبة بالتوغل أكثر في الخيار الحربي واستجرار المزيد من السلاح لمواجهة نظام لا يفهم سوى لغة العنف، حتى لو تحول حًمًلة السلاح إلى مجرد أدوات طيعة بيد الأطراف الخارجية التي تدعمهم، يصح القول إن ثمة توافقات موضوعية بدأت تترسخ لمواجهة الوضع المزري الذي وصل إليه السوريون وثورتهم، تجمع بين التركيز على الملفات الإنسانية، وبذل أهم الجهود لمتابعة قضية المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمغيبين قسرياً، والتشجيع على محاكمة المرتكبين، وبين الالتفات نحو البعد الفكري والثقافي لنصرة مشروعية الثورة وشعاراتها، ولاستخلاص الدروس والعبر بما يعزز وعي المجتمع والذات السياسية ويهيئهما لخوض جولات جديدة نحو التغيير بأقل الخسائر والآلام، والأهم بما يعيد بناء الثقة بالأفق الديمقراطي الذي تلهفت إليه قلوب السوريين في بداية حراكهم، لكنه لم يحظَ بالشروط الكافية التي تمكنه من التطور والتحول إلى خيار خلاصي.
ولعل ما يمنح الجهود الإنسانية والثقافية الجدوى، رغم شدة الخراب، ويخفف حزن السوريين وتحسرهم على ما وصلت إليه ثورتهم، هو حقيقة أن سوريا لن تعود كما كانت، ولن ترجع مرتعاً للقهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، إنْ بشعاراته الديماغوجية الوطنية والقومية وإنْ بعباءته الدينية، فباب التغيير قد فتح للقطع مع الماضي، وللتأسيس والبناء على تراكمات الثورة ودروسها.
يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإنْ هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية ونبيلة ومشروعة هزمت مؤقتاً، والأسوأ أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء تقاسي فيها الجموع الثائرة الأمرين قبل أن تتمثل الدروس وتنهض من جديد، فتاريخ نضال الشعوب لا يكاد ينتهي في زمن إلا ويبدأ مجدداً في زمن آخر.
|