من دروس الثورات العربية أن المعاناة لم تعد تعني شيئاً لغير من يكابدها. في الفصول الأكثر دموية وقهراً من الثورات تلك، في سوريا خصوصاً، رفض العالم التدخل لمصلحة الضحايا. تركهم يختنقون بالغازات الكيماوية في الغوطة ويُسحقون تحت البراميل المتفجرة في حلب وحمص من دون أن يتخلى عن عادته الكريهة في إجراء الحسابات بين أشلاء الأطفال: ماذا نستفيد إذا سقط بشار الأسد وماذا نربح إذا بقي؟
لم يكن الجواب صعباً. وها هو نظام البعث في المكان الذي يحتله منذ ما ينيف عن نصف قرن. ولا يشعر العالم بذرة من تأنيب الضمير، بل يلوم اللاجئين على تهديدهم النظام في الأماكن التي لجأوا إليها وتحميلهم اقتصادات الدول عبئهم الثقيل، من دون أن يربط بين خذلانهم ساعة احتاجوا إلى النصير وبين مجيئهم على متن القوارب المطاطية وسيراً على الأقدام.
وباء «كوفيد – 19» ظهّر هذا السلوك المنافق وأعطاه أبعاداً جديدة. من لم يملك المال مات على أبواب المستشفيات وفي دور العجزة ومنسياً في بيته. ولم تحصل الدول الفقيرة إلا على الفتات من اللقاحات التي تحولت إلى سلعة «جيو – سياسية» يتاجر بها رؤساء وقادة لا يعرفون سوى مراكمة الأرباح على جماجم الموتى، فيما تتكرر لمرة لم يعد يحيطها إحصاء، حقيقة أن المنظمات الدولية أضعف من أن تدير أزمة بهذين الهول والاتساع.
هناك من يقول إن العالم ومؤسساته الدولية والغرب، ليسوا ملزمين بحقوق الإنسان والدفاع عن الضعفاء وتكافؤ الفرص وما شابه من الشعارات. ويضيف هذا البعض أن الشعارات تلك ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي سياق الحرب الباردة ضد الكتلة الشيوعية التي كانت ترفع، من جهتها، شعارات جذرية عن المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق العمال والفلاحين، وأن الغرب، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح في حل من تلك الالتزامات، وهذا ما أخرجه إلى العلن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، عندما استعيدت ممارسات التعذيب المنهجي لأعداء الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وحيث زُج المشتبه بهم في سجون غير قانونية في غوانتانامو وفي دول حليفة لواشنطن. حقوق الإنسان، وفق هذه النظرة، أداة تُستخدم وتلقى جانباً عندما ينتهي وقتها، ولا عزاء للمغفلين الذين يصدقون ما يقال لهم عن قيم الحداثة والتنوير الغربيين. ومقابل غرب هذه بعض صفاته، لا يأتي من الشرق غير نماذج الاستبداد والطغاة المجانين والعنف الفئوي – الطائفي والديني.
والحال أن الدروس والاستنتاجات أعلاه هي مما يختبره اللبنانيون كل يوم. اللامبالاة الدولية بانهيار النظامين السياسي والاقتصادي في هذا البلد هي الوجه الآخر لأداء الجماعة السياسية الحاكمة. يقول العالم إن اللبنانيين الذين طالما تبجحوا بنظامهم الديمقراطي وصيغة حكمهم «الفريدة» قد أوصلوا أنفسهم إلى هذه الهاوية، وأن طريق الخروج منها واضح لكنه ليس سهلاً: تشكيل حكومة تنجز اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي الذي يراقب الإصلاحات الضرورية لإعادة قدر من الحياة إلى الاقتصاد اللبناني. بيد أن هذا الحل قد فشل مع حكومة حسان دياب التي جاءت لتحقيق هذه الغاية بالضبط وأخفقت في التفاوض مع صندوق النقد وخضعت لألاعيب السياسيين والمصرفيين ولم تقدم الوثائق اللازمة لإجراء مراجعة شاملة لمالية الدولة. ويحول ميزان القوى الحالي من دون إحراز تقدم صوب هذا العلاج ما لم يقدم طرف من الجماعة الممسكة بالسلطة «تنازلاً» ما زال مرفوضاً بذريعة أن التنازل سيهدد هوية لبنان أو سيمنع استعادته الثقة الدولية فيه... إلخ.
ووصل الأمر إلى مأساة أعقبت مهزلة. وجرى تجاوز المفارقات غير المنطقية التي ميزت العام الأول من الكارثة اللبنانية إلى مستوى أعمق يتمثل بصدمة عامة عند المواطنين واعتقاد يزداد رسوخاً باستحالة التغيير.
الجانب الأكثر مأساوية هو وضوح الطريق المفضي إلى الخروج من الوضع القائم، كما سبقت الإشارة: حكومة جديدة واتفاق مع صندوق النقد. أين المعجزة في ذلك؟ على هذه الخلفية ترتسم صورة عالم عاجز عن مساعدة تزيد على بعض الألفاظ الفارغة، وهو يعرف بالتفصيل أن أكثرية اللبنانيين هي ضحية الأشخاص ذاتهم الذين انتخبوا لتمثيل مصالح جمهورهم وتحقيقها.
هل يتحمل العالم مسؤولية ولو جزئية عما يجري في لبنان؟ وهل مبدأ السيادة الوطنية للدولة يعفي العالم من مساعدة اللبنانيين في البحث عن خلاص ما؟ وهل الدولة الفاشلة التي تسيطر على الشعب اللبناني وعلى اللاجئين المقيمين هي ما يستحقه هؤلاء الناس وهي قدرهم الذي لا راد له؟
يستدعي ذلك عودة إلى طرح مسألة الأخلاق ليس كعنصر مكون في السياسات الدولية إلى جانب المصالح المادية فحسب، بل باعتبارها جزءاً من هذه المصالح بحيث تظهر العواقب الكارثية لغياب المقاربة الأخلاقية على من يمتنع عن تحمل مسؤولياته.
سقط لبنان في بئر قد يكون حفرها بنفسه. لكن أهله باتوا أضعف وأفقر من أن يخرجوا منها بوسائلهم الذاتية. والرهان المستجد على التدويل قد لا يجد آذاناً صاغية، تماماً مثلما ذهبت حشرجات أطفال الغوطة أدراج الرياح.
|