التاريخ: شباط ٢, ٢٠٢١
الكاتب:
المصدر: جريدة القدس العربي
نِظاما نيترات الأمونيوم
تكشف الوقائع الكثيرة التي توصّلت إليها الاستقصاءات الصحافية، وأبرزها استقصاء فراس حاطوم في قناة “الجديد” اللبنانية، عن علاقة رجال أعمال سوريين على صلة وثيقة ببشار الأسد ونظامه باستقدام شحنة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت أواخر العام 2013. وقد خُزنت أطنان الشحنة المذكورة في العنبر رقم 12 في المرفأ في ظروف لا تراعي الحدّ الأدنى من معايير السلامة وتسرّبت منها كميات ليس معروفاً حجمها بدقّة، قبل أن تنفجر في 4 آب/أغسطس 2020 الكميات المتبقّية في العنبر فتقتل المئات وتجرح الآلاف وتشرّد عشرات الآلاف وتدمّر عدداً من أحياء العاصمة ومعاملها ومرافقها وأبنتيها التراثية.

ورجال الأعمال هؤلاء، جورج حسواني صاحب شركة هسكو، ومدلّل خوري وشقيقه عماد صاحب شركة آي كي بتروليوم، يحملون جميعهم الجنسية الروسية ويلعبون أدوار وساطة بين سوريا وشركات نفط وغاز وخدمات يملكها أثرياء روس، من بينهم الملياردير غينادي تمشينكو المقرّب من فلاديمير بوتين وإيغور غريشوشكين مالك الباخرة روزس التي نقلت المواد المتفجّرة (الجورجية المنشأ) إلى مرفأ العاصمة اللبنانية. وسبق أن وضعتهم الولايات المتحدة ومثلها الاتحاد الأوروبي على لوائح العقوبات في العام 2015 لعلاقة أوّلهم، حسواني، بشراء النفط من “داعش” في شرق سوريا لصالح نظام دمشق، ولمحاولة الثاني – مدلّل خوري – استقدام نيترات الأمونيوم إلى سوريا نفسها بواسطة شركة وهمية مسجّلة في لندن، ولدعمه بالاشتراك مع الثالث – عماد – للنظام من خلال عمليات غسل أموال مالية متكرّرة.

تحيلُ هذه الوقائع والمعطيات إلى مسألتين.

الأولى تتعلّق بجوهر النظام السوري وفلسفته التكوينية. فهذا النظام، منذ أن أسّسه حافظ الأسد ليسلّمه بعد ثلاثين عاماً من حكمه لابنه بشار، قام على استيراد كلّ ما يمكّنه من تدجين المجتمع وخنقه وصولاً إلى سحقه “لتأبيد” سلطته المطلقة. يندرج ضمن الأمر استيراد الشمولية أو “التوتاليتارية” وعدّتها النظرية والمادية (أجهزة أمن ومخابرات ودعاية وإعلام وسيطرة على المؤسسات والنقابات وتضخيم للقطاع العام) من نماذج الكتلة الشرقية (رومانيا بخاصة)، وعبادة الفرد والتوريث العائلي من كوريا الشمالية، معطوفاً عليها شبكات الانتفاع واللصوصية والتهريب العابرة للحدود.

كل ذلك، مع دعائم طائفية أقلّوية وتحالفات مع مؤسسات دينية ووجهاء جهويّين وتجّار وإثارة للتناقضات وللخوف الدائم الذي لا يُسكنه سوى الانخراط في المثالب أو الصمت عنها. ولا يأتي استيراد مواد شديدة الاشتعال وذات قوة تدميرية هائلة في سنوات وسَمها استخدام البراميل المتفجّرة الملقاة على المدن والبلدات المتمرّدة والقاتلة آلاف المدنيّين السوريين إلا ضمن هذه الفلسفة المفضية إلى عمليّات إبادة جسدية بعد الإبادة السياسية لشرائح واسعة من المجتمع السوري.

وليست صدفة أو ملابسة تفصيلية أن يُفوّض النظام رجال أعمال وشركات فعلية ووهمية لغسل أموال أركانه أو لاستقدام عدّة قتل وحشي تمكّنهم من الاستمرار في ارتكاب الجرائم. فهؤلاء أدوات ضمن ماكينته، كلّما تفاقم فسادهم ازداد ولاؤهم له، وكلّما توطّد ولاؤهم تمكّنوا من توسيع أنشطتهم وفسادهم. وقد تزايد دورهم السياسي كما نفوذهم الاقتصادي منذ تولّي بشار الرئاسة العام 2000 وتسريعه “الخصخصة” و”تحرير” الاقتصاد، ووصل تزايد الدور والنفوذ إلى ذروته منذ اندلاع الثورة العام 2011 وتحوّلها حرباً ضارية، إذ باتوا وسطاء سياسيين ومفاوضين ومموّلين وتجّار حصار ومبيّضي أموال ومستوردين لكلّ مادّة تفيد الجهد الحربي.

بهذا المعنى، يمكن القول إن استيراد المواد القاتلة بهدف استخدامها لإدامة السلطة والنفوذ هو بحدّ ذاته علّة وجود النظام السوري. كما أن تكليف رجال أعمال مزدوجي الجنسية بها (وليس مصادفة انتماؤهم إلى الأقلية المسيحية التي يدّعي الأسد حمايتها) يدخل ضمن صلب ثقافة النظام والتداخل المتزايد للأدوار والنفوذ والمصالح في دوائره، خاصة بعد التوريث ثم بالتوازي مع الصراع الدائر ودخول روسيا كعنصر مرجّح وحاسم فيه.

المسألة الثانية المرتبطة بهذه القضية هي تلك التي تخصّ الجانب اللبناني، لجهة تورّط مسؤولين سياسيين وأمنيّين ومصرفيّين لبنانيّين بعلاقات مع رجال الأعمال السوريين وشركاتهم، تغطيةً لهم وتواطؤاً معهم ثم شراكة في المسؤولية عن جريمة الانفجار من خلال التخزين والتكتّم على أسبابه وظروفه والملابسات المحيطة به وبعمليّات تمويله، أو الإهمال وعدم الاكتراث للمراسلات المشيرة إلى خطورة المواد وسوء عزلها وحمايتها من “التسرّب” ومن كلّ ما قد يتسبّب بحريقها وانفجارها (إضافة إلى فضيحة وضعها في عنبر خُزّنت فيه بجوارها مفرقعات نارية وبضائع أخرى قابلة للاشتعال).

على أن المسؤولية الجرمية تتخطّى اليوم، بعد أكثر من خمسة أشهر على الكارثة البيروتية، المتواطئين الذين وقّعوا على معاملات دخول الباخرة روزوس إلى بيروت وإفراغها حمولتها ثم مغادرتها، أو توسّطوا لتخزين موادها، أو حتى غضوا النظر عن خروج أطنان من محتواها من المرفأ، على ما يمكن استنتاجه من التقارير المشيرة إلى عدم انفجار الكمية الكاملة للشحنة، المقدّرة بـ2700 طن (وهذا يطرح بالطبع تساؤلات عن مكان تواجد الكميات التي لم تنفجر وهويّة مُخرجيها وحُماتهم).

تتخطّى المسؤولية إذاً المذكورين لتطال كلّ من يحول حالياً دون التحقيق الجدّي في الجريمة المروّعة، بدءاً برئيس الجمهورية الذي سبق أن وعد بإعلان نتائج التحقيق بعد أسبوع من الانفجار، وصولاً إلى المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية المقصّرين أو المتجنّبين (تواطؤاً أو خوفاً) متابعة القضية، ومثلهم المعنيّين في الأجهزة الأمنية وفي الجسم القضائي المتباطئين في التحقيقات والإجراءات، وإلى جانبهم جميعاً وقبلهم حزب الله، الشريك الأساسي في حُكم البلد والإمساك بمفاصل الأمن فيه، والحليف الأول لنظام الأسد ولمنظومته القاتلة والمافياوية.

هكذا، تُوحّد الجريمة وثقافتها وانغماس أصناف المجرمين واللصوص والشركاء والعملاء والمهملين والخائفين على أنواعهم فيها بلدَين، قال حافظ الأسد يوماً، بعد أن أحكم سيطرته على الأوّل وسطا على الثاني، إن ما بينهما صنعه الله والتاريخ والجغرافيا. ويمكن أن نضيف اليوم إلى مقولته الشهيرة، بعد التجارب الكثيرة وعقود المعاناة الطويلة، أن ما بين البلدين أيضاً ما صنعته الاغتيالات والمافيات والبراميل المتفجّرة ونيترات الأمونيوم…