|
|
التاريخ: كانون الأول ٤, ٢٠٢٠ |
المصدر: موقع النهار العربي - لبنان |
|
فَراغ مُجتمعي خَانق في الجزائر... هل تبادر النُخَب؟ |
الجزائر-إيمان عويمر
لا يزال المواطن الجزائري يحلم برُؤية النخب المُلتزمة قضايا الأمة، تُثري المشهد العام بأفكار وحلول تُخرج البلد من أزماته المتراكمة منذ استقلال البلاد عام 1962، وتُعطي الشارع جُرعات أمل، تدفَع الأفراد نحو مشارِيع مُجتمعية يمكنها إحداث التغيير، بعيداً من حالة الاستقطاب الإيديولوجي وفزاعة التخوين.
على مَدار عقود اقترن تواري النُخب عن الأنظار بممارسات النظام السياسي غير المنفتح على المبادرات التوافقية، والمتفرّد بسُلطة القرار. يسري ذلك على أبسط إجراء إداري إلى أعلى منصب في الدولة، وهو رئيس الجمهورية، الذي لا يُشارك الشعب في اختياره، وإن فعلُوا يكون ذلك في شكل صوري، فينتهي الأمر بمشاركة هزيلة أو اتهامات بتضخيم نتائج الانتخابات، وفق ما يقُول مُعارضون.
في سَائر الأحوال ظَلت السلطة المدعومة بأجهزتها الحزبية والأمنية، لا تتقاسم مشاريعها وخُططها مع أحد، ما ضَيّع على الجزائر فرصة أن تُصبح بلداً مزدهراً اقتصادياً ومتفوقاً علمياً وقِبلة سياحية بامتياز، لا تعتمد على ريع النفط في تغذية الخزينة، إنما تستغل الفرص المتاحة في خلق موارد جديدة وقودها طاقة شبابية تمثل أكثر من 70 في المئة من العدد الإجمالي للسكان المقدر بـ 44 مليون نسمة في 2020.
كَسل فكري
لكن هل من الصواب توجِيه أصابع الاتهام إلى السلطة وحدها، من دون تحميل النخب السياسية، والثقافية وغيرهما، مُجمل الإخفاقات المجتمعية التي حصرت حضورها في نطاق ضيق، أو انسحبت عن أداء دورها ورَكَنت إلى عُزلتها، لدرجةٍ بات يشعر الجزائريون بأنهم يعيشون فراغاً قاتلاً؟.
يُخبرنا البرلماني الجزائري نور الدين بلمداح، أنّ التكوين الجامعي يتحكم بدرجة كبيرة في تحديد مَسار النُخب على اختلاف تلاوينها وتشعباتها، إذ إن هُناك من اختاروا إلى جانب الدراسة، الانخراط في العمل النقابي والمجتمعي في شَكل مكّنهم من الدفاع عن حقوقهم وقول كلمتهم حتى خارج أسوار الجامعة... وفي المقابل اختزلت الفئة الثانية تلك المحطة التعليمية العُليا بين المطعم والإقامة الجامعية، وهؤلاء في الغالب أشخاص يختارون الانكفاء على الذات من دون مشاركة آرائهم ومقترحاتهم.
الأكيد أنّ من يُؤمنون بأفكارهم ويُحاولون أداء دور في المجتمع، هم أشخاص ناجحون تحدّوا الصعاب وفضلوا التجاوب مع محيطهم وفق قول بلمداح لـ"النهار العربي"، لأنهم أدركوا أنّ ما تعلموه يجب تقاسمه مع الآخرين، بينما تكتفي الفئة الأخرى بالأجر الشهري في شكل يجّعلها تعتقد أنّها غير مَعنية بالدرجة الأولى بما يحصُل في البلد أو خارجه.
الأفكار حاضرة والأدوات مُعطّلة
في قِراءة تحليلية مُعمقة لـ"النهار العربي"، يُطلعنا الباحث في علم الاجتماع السياسي، في جامعة الجزائر نور الدين بكيس، أنّ مُشكلة النُخبة في بلاده ليست مرتبطة بالأفكار ولا بإبداع آليات الخروج من الأزمات المتعدّدة التي يغّرق فيها المجتمع، إِنما يكّمن في افتقادها لأدوات تغيير الواقع المعطلة بعدما جرى احتواؤها من السُلطة الحاكمة، المتفرّدة بالقرار والممسكة بزمام الأمور.
يذهب بكيس للاعتقاد أنّ الجزائريين يعيشون مرحلة من الشك، يشرحها بالاستدلال على بداية الحراك الشعبي في 22 شباط (فبراير) 2019، "عندما كان الجزائريون يُشاركون في المسيرات من دون الاكتراث إلى التكلفة، أي الإجراءات العقابية في وجه هذا الحق الدستوري، لكن اليوم قبل أن ينزل أي مواطن إلى المسيرات يُفكر ألف مرة في ثمن المشاركة".
يَعكس هذا المثال وفق الباحث أنّ "الجزائريين ليسوا في وضع طبيعي أو عادي إنما يُواجهون انغلاق ناعم لا يظهر للعيان. إلا أنّ أدوات المعاقبة والاقصاء والتحكم بالنسبة إلى السلطة التي أصيبت بالصدمة بعد الحراك، حاضرة بقوة، وكمثال على ذلك الإغلاق الاعلامي والتعتيم الذي منع الفكرة من البروز والاكتفاء بتسويق تلك التي تتماشى مع أطروحة السلطة".
أمام هذا الوضع تمتنع النُخب عن المغامرة في أية مشاريع أو مُحاولة تغيير جادة لأنها تُدرك أنّ هذه المرحلة مفتُوحة على كل الاحتمالات، ما يجعلها تتراجع خطوة إلى الوراء، بعدما سارعت مع اندلاع الحراك إلى توقيع حُضورها باستغلال كل الفضاءات الممكنة "إعلام، ساحات عامة، فتح حوارات أثناء المسيرات"، لكن مع عودة المشهد الجزائري إلى الإرباك اختفت كل النخب وكأنّ تلك المرحلة شكلت الاستثناء بعدما أُغلقت المساحات بطرق مُتدرّجة تم فيها توظيف ورقة وباء كوفيد-19".
يُضيف الباحث في علم الاجتماع السياسي، "الآن نشعر بعد وثبة 22 شباط (فبراير) أن الساحة فارغة وعقيمة وعاجزة عن إنتاج أية أفكار، بينما الحقيقة ترتكز على من يملك ويتحكم بأدوات حَلحَلة الأمور، بداية من فتح الإعلام إلى التأسيس لحوار سياسي ونقاش مجتمعي من دون إقصاء، وكَذلك تحرير الإدارة والاقتصاد".
من هذا المنطلق، نستنتج، أن عوامل تفسيرية عدة تتشارك في استقراء واقع النخب الجزائرية، يُمكن تلخيصها في عاملين رئيسيين، الأول هو التضيق الذي تُمارسه السلطة من خلال النظام القانوني القائم، وتقييد معظم مساحات التعبير الحر، وإشاعة مناخ الخوف، وهذا يُؤدي إلى انسحاب النخب من النقاش العام أو هِجرتها إلى الخارج. أما العامل الثاني، فهو الريع الذي تستغله السلطة لاستقطاب النُخب إلى صَفها من خلال مناصب وامتيازات مُغرية لا تُوجَد خارج نِطاق النِظام، بسبب غياب فضاءات خاصة تستقطب النُخب المعارضة وتسمح باستقلاليتها المَالية عن السلطة.
حلول تحتاج لإرادة سياسية
ولأن الحلول موجودة دائماً، يقترح النائب في البرلمان الجزائري، نور الدين بلمداح، وهو نائب عن الجالية في المهجر، إعادة الأمل للنُخب التي اختارت العزلة، وهو دور مختلف الإدارات والسلطات التي ينبغي عليها إعطاء قيمة لهذه الفئة المهمة من المجتمع عبر فتح الأبواب لها ومنحها التسهيلات الكافية وتَحفِيزها سواء كانت في الداخل أو في الخارج.
في المقابل، يلفت الباحث بكيس، أنّه من غير الممكن التعويل على تقوية الجبهة الداخلية من دون تغيير ممارسات السلطة، وتخَليها عن الخطاب القديم المرتكز على نظرية المؤامرة والخطر والأجنبي والعدو المفترض، لأن المواطن الجزائري يُدرك أن النظام من يُعطل الحل الداخلي جراء الانغلاق الحاصل وسوء التسيير، ويقول إن "الكرة في مرمى السلطة وليس لدى فئات واسعة من الشعب". |
|