التاريخ: تشرين الثاني ١٤, ٢٠٢٠
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
50 عاماً من الحركة التصحيحية! - أكرم البني
«لو كان حافظ الأسد حياً لما حصل ما حصل»... عبارة اعتاد أن يطلقها بعض المخضرمين من أنصار النظام تحسراً على ما آلت إليه أوضاعهم وما حل بوطنهم، جهاراً، للتمييز بين أحوال سوريا في العقود الثلاثة التي قاد خلالها حافظ الأسد السلطة وبين العقدين الأخيرين لبشار الأسد، وضمناً للإشادة بالمرحلة الأولى وتبرئة صاحبها مما وصلنا إليه، لكن لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق حتى يستنتج أن ليس ثمة فوارق نوعية بين المرحلتين، وأن الحاضر هو استمرار للماضي ولجوهر ما سُمي الحركة التصحيحية، والقصد أن ما جرى ويجري اليوم ليس سوى استمرار حثيث لما أرساه حافظ الأسد، بنية ونهجاً وممارسة، بعد استئثاره بالسلطة في السادس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970، من دون أن يغير موته هذه الحقيقة حتى بات البعض يتندر بأن شبحه لا يزال حاضراً، وأنه ربما يدير البلاد من مدفنه.

هي الحركة التصحيحية التي سوغت لنفسها الوصاية على الناس والوطن، وكان نهجها لدوام السيطرة ليس التعاطي مع مطالب المجتمع وحقوقه وطموحاته، بل الاستمرار في إرهابه وإخضاعه، فدأبت على الاستهتار بالبشر وحيواتهم ودورهم في الحياة العامة وإخضاع مكانتهم في المجتمع لمعايير الولاء الطائفي أو السياسي، متوسلة لتطويعهم سيطرة اقتصادية شبه شاملة، وتحكماً في أشغالهم ووارداتهم ومستلزمات عيشهم، وأيضاً مؤسسات استمدت نماذجها من تجربة كوريا الشمالية، وتطال مختلف الفئات، بمن فيهم الأطفال والفتيان، كطلائع البعث وشبيبة الثورة، ومتوسلة، وهو الأهم، أجهزة أمنية، ديدنها الاعتقال والتعذيب والإذلال والسجن المديد، تتغلغل في مختلف تفاصيل الحياة لزرع الرعب والخوف في نفوس الناس وشل إراداتهم؛ ما أعدم الهوامش البسيطة لأي نشاط سياسي أو حتى مدني أو ثقافي مستقل، وكانت الفاتحة بزج رفاق الدرب صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين وغيرهم في سجون أبدية، حيث لم يطلق سراحهم إلا موتى أو مرضى على حافة الموت، وهو المصير، مع اختلاف الدرجات، الذي لاقاه الآلاف من منتقدي نظام حافظ الأسد ومعارضيه، وهو النهج الذي استمر مطلع الألفية بزج أبرز قادة ربيع دمشق في السجون، ثم محاصرة واعتقال الناشطين والمثقفين المعارضين، ممن بادروا لإصدار إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي (2005)، أو وقّعوا على إعلان بيروت - دمشق (2006)، من دون أن ننسى تكرار الرد السلطوي العنيف وبأشنع الوسائل على كل عمل معارض لامس ما يرسم من خطوط حمراء، بدءاً بإعدامات المنظمة الشيوعية العربية (1975)، مروراً بأحداث حماة الدموية (1982)، والتي بدت أشبه ببروفة أو لعبة أطفال، مقارنة بما أقدم عليه النظام طيلة السنوات العشر الأخيرة، لمواجهة ثورة السوريين.

وأيضاً هي الحركة التصحيحية التي خلقت منظومة متماسكة من الفاسدين الذين ينهبون، تحت الرعاية الأمنية والسياسية، ثروات الوطن ويتحكمون في مقدراته، حتى غدا الفساد، مع الزمن، حالة سياسية واجتماعية مستشرية، وجزءاً عضوياً من تركيبة الدولة ومقومات بنائها، موفراً تربة خصبة لنمو الروح الانتهازية وتسلل شخصيات فاسدة وذليلة إلى المناصب السياسية والإدارية خالقة من حولها عالماً ذليلاً وفاسداً على صورتها ومثالها.

وما زاد من قوة الفساد احتكار أقرباء رأس النظام، كآل الآسد ومخلوف وشاليش، أهم الأنشطة الاقتصادية، وإطلاق يدهم لنهب الكثير من المؤسسات العامة، واستمر الأمر مطلع الألفية بسيطرة أبناء هؤلاء الأقارب على الكثير من الشركات التجارية والإنشائية والخدمية وأبرزهم رامي مخلوف، والأنكى أنه وفي ظل الحركة التصحيحية، تتقصد أجهزة السلطة تحضير ملفات فساد لمعظم الوزراء والقضاة والمديرين العامين والكوادر النقابية، تستخدمها، تهديداً وابتزازاً، حين اللزوم، كي يبقوا طيعين بيديها وينفذوا ما تمليه عليهم من دون تردد.

وهي الحركة التصحيحية التي لجأت إلى الروابط المتخلفة، بعكس ادعاءاتها الوطنية والقومية، وأهمها الرابطة الطائفية لبناء لحمة سلطوية متراصة يصعب اختراقها، مستمدة من تجربة كوريا الشمالية أيضاً، نموذج توريث الحكم، وأهمية تعويم رأس النظام على أنه القائد الخالد، ثم المفدى، كذا، ربطاً بالحرص على عدم وصول، سوى الموثوقين من أبناء الطائفة، إلى المواقع العسكرية والأمنية الحساسة، أما المناصب الأكثر حساسية فهي من حصة روابط الدم، ولا ضير بعدها من تقديم بعض الفتات لمن يدور في فلكها مما سُمي حلف الأقليات والموالين من المسلمين السنة، ولعل أحد أسباب نجاح رأس النظام في الإمساك بالطائفة العلوية واحتكار دورها هو إفشال الرهان على وجود بديل له من داخلها؛ ما جعل سجن صلاح الجديد (1970) واغتيال محمد عمران (1972)، ثم إبعاد رفعت الأسد (1984) عبرة لكل من يعتبر من الطامحين لمنافسته طائفياً، ولا يجانب الصواب من يضع تفجير يوليو (تموز) (2012)، الذي ذهبت ضحيته خلية الأزمة وعلى رأسها آصف شوكت في هذا السياق، وأيضاً التغييب المستمر منذ سبتمبر (أيلول) (2012) للقيادي في هيئة التنسيق المعارضة، عبد العزيز الخير، بعد عودته مع رفاقه من زيارة سياسية للصين وإيران!

وأخيراً، هي الحركة التصحيحية التي يعترف لها بنجاحها في إخراج البلاد من لعبة «الصراع على سوريا» وصنع نفوذ ودور في المشرق العربي، والتي، على النقيض اليوم، حولت البلاد إلى ساحة صراع تتنازعها خمس قوى أجنبية محتلة.

وإذا كان رفع الغطاء العالمي عن دور النظام ونفوذه الإقليميين، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والاحتلال الأميركي للعراق وانكفاء الورقة الفلسطينية نحو الداخل جراء اتفاقات أوسلو، قد لعب دوراً في خسارة النظام لأهم أوراقه الإقليمية، وتتوجت بإجباره على إخراج قواته من لبنان، لكن، ثمّة فارقاً كبيراً بين فرض نفوذ إقليمي مؤقت بالقوة العسكرية والأمنية، وهو ما دأبت على ممارسته سلطة الحركة التصحيحية، قمعاً وتهديداً وإرهاباً واغتيالاً، وبين ديمومة تحصيل نفوذ إقليمي بقوة مجتمع حي يمتلك اقتصاداً متيناً تنافسياً، وكفاءات علمية ومهنية، ويتفاخر أبناؤه بصفتهم مواطنين أحراراً ومتساوين أمام دولة العدل والقانون.

هذا المطر من ذاك الغيم... ومع حفظ الفوارق في الكاريزما والكفاءات الشخصية بين قيادة المرحلتين، فثمة خمسون عاماً سوداء مرت على السوريين عنوانها واحد، هو ربط بقاء سوريا، وطناً وبشراً وعمراناً، ببقاء السلطة وامتيازاتها وفسادها، وإلا فلتحرق البلد!