| | التاريخ: تموز ٢٤, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | مفارقات المعارضة السورية وأوهامها - أكرم البني | اللافت أن أخبار المعارضة السورية تعود اليوم إلى المشهد، لكن ليس بفضل إنجازاتها، بل للأسف بفعل ما يكتنف سلوكها، في هذه الآونة، من مفارقات مؤلمة، وربما مثيرة للسخرية، ومن زخم الأوهام والرغبات التي تتحكم بحساباتها ومواقفها.
أليست مفارقة مثيرة للاستهجان والاستهزاء في آن معاً؟! حين تعقد أطراف من المعارضة السورية، تدّعي التزامها قيم الديمقراطية وتداول السلطة، صفقة بينية صريحة لتبادل المواقع بين رئيس الهيئة العليا للتفاوض ورئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليحل كل منهما مكان الآخر، في دلالة على دوافع احتكارية لمناصب المسؤولية من دون اعتبار لانعكاس ذلك على مصداقيتها وثقة الناس بها، ومن دون توضيح لطابع الحاجة، إذا كانت ثمة حاجة، تسوّغ تمكين هذين الشخصين من الاستحواذ والاستئثار بمنصبين حساسين من مناصب العمل السياسي المعارض، فكيف الحال حين يتفقان جهاراً مع أنصارهما على محاربة كتلة مهمة من المعارضين المستقلين، باتوا يشكلون الأغلبية بالمقارنة مع المنتمين لتنظيمات وأحزاب، لإعاقة تمثيلهم بحصة تكافئ وزنهم داخل الهيئة العليا للتفاوض، الأمر الذي يذكرنا بمناورات رموز «الإخوان المسلمين» كي يضمنوا السيطرة على مؤسسات الائتلاف الوطني خلال فترة تأسيسه، ونجاحهم في إبعاد وتحجيم قوى وشخصيات ديمقراطية وعلمانية، من دون أن يعتريهم أدنى تردد أو خجل من اتباع نهج وسلوك، يطيحان بما يدّعونه عن المساواة والتشارك وتكافؤ الفرص ومبدأ الانتخاب على أساس القدرة والكفاءة، وليس على أساس المشروع والولاء الحزبيين.
وماذا يمكن أن يقال عن معارضة تصدح ليل نهار ضد التدخلين العسكريين الروسي والإيراني في الشأن السوري، بينما تبارك التدخل العسكري التركي وتدعم الجماعات المسلحة المؤيدة لحكومة أنقرة؟ والأنكى حين تصمت عن الممارسات القمعية البغيضة التي تمارس ضد الأكراد في مناطق الاحتلال التركي، سواء بإرهابهم ومصادرة ممتلكاتهم أو بقمع واضطهاد الناشطات والناشطين، ولعل فضيحة كشف سجون سرية يديرها فصيل عسكري معارض وتكتظ بالنساء والفتيات الكرديات هو غيض من فيض مما يحصل على أرض الواقع، والأسوأ من كل ذلك تغطية أطراف من المعارضة السورية للدور التركي في الصراع الليبي وتواطؤها مع حكومة أنقرة لاستجرار آلاف المقاتلين من الفتية والشبان السوريين لزجّهم هناك كمرتزقة دعماً لحكومة الوفاق، الأمر الذي سبّب أضراراً نوعية بعيدة المدى على الشعب السوري ومشروعية حقوقه ونضاله، وأضراراً مباشرة على ما تبقى من سمعة للمعارضة السورية ودورها السياسي.
في المقلب الآخر، لا يفاجأ المرء حين تحظى اليوم المعارضة السورية باهتمام محفوف بسيل من الانتقادات ما دامت قد وضعت نفسها في طليعة المروجين للأوهام والمبالغين بتداعيات الأزمة التي تعتمل داخل معسكر السلطة، مغلبة رغباتها وأمنياتها على الواقع الملموس، ونسأل، كم هي خفة لرموز معارضة واستخفاف بالحقائق، حين يأخذهم بعيداً حديث لصحافي إسرائيلي عن توافق دولي لتغيير رأس النظام السوري كان يفترض أن يتم أواسط الشهر الحالي؟! ومن أين يستمد زعماء معارضون معطياتهم حين يدعون أن الخلاف مع رامي مخلوف قد أعد مسبقاً كي يفضي إلى تفكك وانهيار سريع للسلطة؟ أو حين تسمعهم يدرجون، وبكل ثقة، أسماء لشخصيات عسكرية وسياسية، ستكون بمثابة مجلس مؤقت لقيادة المرحلة الانتقالية، ثم أسماء مفترضة لحكومة قادمة بصلاحيات واسعة وبرعاية دولية؟!
فكيف الحال حين يبالغ بعض زعماء المعارضة في رهانهم على الخلاف بين روسيا وإيران حول المستقبل السوري، فيجزمون بأن القطيعة بين الطرفين قد تمت ولم يعد ثمة فرصة للتنازل والتفاهم، بما في ذلك التأكيد بأن ثمة موقفاً لموسكو قوياً وحازماً يسعى لتحجيم نفوذ طهران ويدعم التغيير السياسي في البلاد، من دون الأخذ في الاعتبار تواضع مشروع الحل السياسي الروسي، وحجم المصالح والتوافقات الكبيرة بين موسكو وطهران، وحاجتهما المستمرة لتوحيد جهودهما في مواجهة العقوبات الغربية والعدو الأميركي المشترك؟
وكيف الحال عندما تضخم رموز من المعارضة دور قانون قيصر بعد تفعيله أميركياً، فيراه بعضهم الأداة الناجعة لتغيير التوازنات السورية، ربطاً بحديث عن صيف ساخن تشكل فيه عقوبات قيصر مقتلاً للنظام وانهياراً لمكوناته، بينما يراه آخرون حافزاً قوياً لتوافق روسي وأميركي ينهي الحكم السوري ويفتح آفاقاً أمام تركيبة سياسية جديدة لقيادة البلاد، من دون أن ننسى تعويلهم على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المرافقة للعقوبات، في إطاحة عاجلة بالنظام القائم، إلى آخر هذه الاندفاعات الرغبوية التي لا تقيم وزناً للحقائق القائمة، ولا لدروس التاريخ، ولا للحدود المتواضعة التي رسمتها أميركا نفسها لقانون قيصر؟!
صحيح أن المسؤولية الأساس فيما وصلنا إليه تقع على عاتق سلطة استبدادية أنانية ازدرت السياسة ورفضت تقديم التنازلات لشعب طالب بأبسط حقوقه، ودأبت على تحويل الحراك السلمي إلى صراع مسلح مشحون بالغرائز والاستفزازات الطائفية، ولم تتردد في توظيف ما تمتلكه من أدوات قهر وتنكيل، واستجرار ما هبّ ودبّ من قوى قمع خارجية كي تحافظ على سطوتها وامتيازاتها، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة مسؤولية مهمة تقع على عاتق العمل المعارض الذي فشل في نيل ثقة الناس وقيادة ثورتهم، وساهم في تشجيع العسكرة وتغطية حَمَلة السلاح وجماعات التطرف الإسلاموي، عدا أوهام حكمت مواقفه بانتصار سريع، ورهانات على دعم خارجي حاسم، وما زاد الطين بلة أن تضج صفوفه بالحسابات الأنانية والذاتية وبمزايدات لفظية وبصراع مؤذٍ ومكشوف على المراكز والامتيازات.
يصح القول إن السوريين كانوا من أكثر المتسامحين مع المعارضة السياسية التي ادّعت تمثيل مطالبهم وحقوقهم، ومنحوها الفرصة تلو الفرصة كي تثبت مصداقيتها، لكن أكثر من 9 أعوام منذ انطلاق الثورة هي فترة ليست قصيرة للاختبار، وتالياً لكشف ماهية هذه المعارضة وقدراتها، بل هي فترة كافية للقول بأن المعارضة السورية عموماً لم تكن وللأسف على قدر الحمل والمسؤولية، وللتأكيد أن ليس ثمة دافع لدى الشعب السوري كي يثق بمعارضة تحكمها تلك المفارقات والأوهام... معارضة باتت بعيدة عن همومه الوطنية وترتهن لرعاتها الإقليميين والدوليين... معارضة تنتظر الغيث من السماء أو ضعف خصومها كي تشعر بنفسها قوية، وتتهافت على لعب أي دور في مشهد سياسي مستعصٍ، من دون أدنى مسؤولية وجدية في مراجعة مواقفها ومراقبة أفعالها والاعتراف بأخطائها تمهيداً للتجاوز. | |
|