| | التاريخ: تموز ١٧, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | التعدد والديمقراطية: سراب آخر في المشرق العربي - حسام عيتاني | غالباً ما يعثر الباحث عن مراجع ومصادر تتناول العلاقة بين التعدد (التنوع – التعددية) وبين الديمقراطية، على كتب وأوراق كتبها غربيون يدرسون فيها أهمية التعدد في تعزيز دور الديمقراطية سواء في الدولة ومؤسساتها أو في المجتمع. النظر في اتجاه معاكس، بمعنى كيفية إضفاء الديمقراطية على بلدان يشكل التعدد سمة مكوِّنة لها على غرار المشرق العربي وبلاد الشام خصوصاً، ليس بالسهولة ذاتها.
حلول التعدد على مجتمعات حققت خطوات واسعة نحو الحكم الديمقراطي، يقترن في أكثر الأحيان مع التجربة الغربية بفرعيها الأوروبي والأميركي الشمالي. ذلك أن نشوء الدولة – الأمة وتوجهها نحو الخيار الديمقراطي، مرّ بمراحل كانت المجتمعات فيها ذات أكثريات سكانية وعرقية واضحة. وتمكنت الدول تلك من مطابقة حدودها إلى حد ما مع انتشار الناطقين بلغة أو من يُعرّفون أنفسهم بانتماء قومي أو عرقي معين. ظلت الحدود تلك موضع نزاع (ومن أشهرها الخلاف حول منطقتي الإلزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا) إلى أن سُويّت نهائياً على أثر الحرب العالمية الثانية.
موجات الهجرة التي استقبلتها أوروبا لإعادة الإعمار بُعيد الحرب بين أربعينات وسبعينات القرن الماضي، كانت تجربة لم تعرفها القارة منذ طرد المسلمين (المورسكيين) واليهود من الأندلس في القرن السادس عشر. يومها حسمت الأكثرية مسألة التعدد من خلال القضاء على تجمعات «الآخر» و«المختلف» وتشريدها وتوزيعها على جماعات في منافٍ بعيدة. وصلت ذروة هذه المقاربة في نفي الاختلاف والتعدد بالهولوكوست الذي شمل إلى جانب اليهود كلاً من توسمت النازية فيه ملامح تباين مع الأكثرية السائدة، الغجر والمثليين وغيرهم.
مجيء المهاجرين من أفريقيا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية ونهاية الإمبراطوريات الاستعمارية، أحيا مسألة التعدد والاختلاف في قلب المجتمعات الأوروبية. بيد أن المهاجرين هؤلاء جاءوا في مرحلة انتصرت فيها الديمقراطية على الفاشية والنازية، وباتت لهم حقوق مكرسة في القوانين التي دفعها المشروع الأوروبي الاتحادي إلى الأمام.
في الولايات المتحدة، شكّل الأميركيون - الأفارقة «الآخر» الذي حمل عبء قضية التعدد. ولا يخفى أن مساراً مشابهاً في خطوطه الرئيسة للمسار الأوروبي، شق طريقه هناك. الولايات الشمالية الصناعية حيث نضجت التجربة الرأسمالية وقيم التحرر وبالتالي القبول بالآخر المختلف، ولو كشريك أصغر وقابل للاستغلال، هي من قضى على النزعة الأرستقراطية – الإقطاعية في الولايات الجنوبية التي لم يرَ أكثر سكانها في السود غير عبيد. أزاحت الرأسمالية الصناعية العلاقات الإقطاعية – العبودية في الحرب الأهلية وأرست صورة جديدة لمجتمع متعدد، ما زال يعاني حتى اليوم من آثار التمييز العنصري، على ما بيّنت المظاهرات التي أعقبت مقتل جورج فلويد أخيراً.
إذن، عادت قضية التعدد لتحتل مكاناً بارزاً في السجالات السياسية والثقافية في الغرب الأوروبي والأميركي. وما زالت مقارباتها ترفع الديمقراطية والمشاركة كشعارين في وجه النزعات الشعبوية والشوفينية والعنصرية المتصاعدة في كل مكان. نَقْلُ الشعارين إلى حيز الممارسة السياسية ما زال عملية صعبة ومكلفة في ظل التوازي والتداخل الحاليين لأزمات تحتاج كل واحدة منها إلى قدرات استثنائية، من الاقتصاد إلى وباء «كورونا» والصراعات الإقليمية المتفاقمة...
في المشرق العربي، لم تستقر خطوط الانقسام بين الجماعات الأهلية والقومية المختلفة. كان نظام الملل العثماني حلاً «تراثياً»، إذا صح التعبير، لمشكلة شديدة التعقيد وممتدة في الزمن. انطوت «التنظيمات» التي سعت السلطنة العثمانية من خلالها إلى عقلنة وجودها السياسي واجتماعها، على بذرة «عدالتية» أو «مساواتية» بين رعايا السلطان. لم تتطور المحاولة وتضافرت ظروف من داخل السلطنة ومن خارجها على إفشال «التنظيمات». ثم جاء الاستعمار فكرّس ما كان قائماً من علاقات مللية وقدم طوائف وأخّر غيرها عن مواضع السلطة والنفوذ، وفقاً لمصالحه ورؤاه.
لم تظهر الدولة - الأمة في المشرق ولا حُلّت مسألة الأقليات والأكثريات. وشكّل تحول الجماعات الأهلية (الطائفية) والقومية إلى أحزاب سياسية ترفع سراً أو علناً راية المذهب، تحدياً صلباً أمام الحل الديمقراطي للقضية. بل إن الديمقراطية ذاتها انقلبت أداة تهويل وترهيب بيد قادة الطوائف وممثليها السياسيين. حكم الأكثرية، التعريف الأبسط للديمقراطية، صار في هذا السياق مرادفاً لاستبداد الأكثرية. فما كان من الأقليات إلا أن رفعت شعارات العلمانية التي خرجت بدورها من سياقها التاريخي لتخدم كمبرر لاستيلاء الأقليات على السلطة. سوريا في عهد السلالة الأسدية، والعراق في أيام صدام حسين خير مثال.
الديمقراطية التوافقية التي جرّبها لبنان واعتمدها العراق في دستور ما بعد الحكم البعثي، أظهرت عجزها عن الصمود أمام العواصف الإقليمية. بل إن التجربتين أثبتتا هشاشة التوافق الذي يتعين عليه احتضان الديمقراطية وسهولة تحوله إلى مشروع هيمنة طائفة أو تحالف طوائف على الشركاء في الوطن. وككل هيمنة جزئية لا تستند إلى شرعية تاريخية، تفشل مشاريع الهيمنة الواحد تلو الآخر لنجد أنفسنا أمام الخراب الحالي، في سوريا والعراق ولبنان. ولتبقى فكرة العدالة بين الجماعات المتعددة والشراكة في التمثيل السياسي، مجرد سراب يطارده حالمون. | |
|