التاريخ: نيسان ٢٨, ٢٠٢٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
كوفيد-19: هل هي نهاية الحقبة النيوليبرالية في لبنان؟ - كريم مرهج
أثارَ انتشارُ فيروس الكورونا (SARS-CoV-2) وتوقُّف معظم الأنشطة الاقتصادية، والتعاملُ الكارثي مع الوباء من قِبل العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم تساؤلات كثيرة حول بعض الأعراف التقليدية. أوّلًا، نأمل أن يختفي مُصطلح "العمّال غير الحرفيّين" (unskilled workers) المُهين، إذ أنّ بقاء البشرية معتمد الآن على هؤلاء مثل العاملين في مجال النظافة، وفي المتاجر والدكاكين، وعُمّال الزراعة وسائقي تسليم السلع الى المنازل. على نطاق أوسع، كشف هذا الوباء عن الأُسُس الهَشّة للنيوليبرالية، وهي النموذج السائد في معظم أنحاء العالم منذ نهاية الحرب الباردة، والتي تبدو كأنّها وصلت إلى مشارِف الانقراض. ولكن قبل تحليل كيف قامت النيوليبرالية بتدمير لبنان والنظر إلى الخيارات المتوفّرة لما بعد هذا النظام، من المهم توضيح سجلّ النيوليبرالية في العالم.

النيوليبرالية: وسيلة للتحرّر والحرّية؟

يصف دايفيد هارفي النيوليبرالية كنظرية اقتصادية وسياسية تفترض أنّ أفضل وسيلة لتحقيق رفاهية الإنسان هي عبر تحرير الأسواق من التدخّل الحكومي، وتحرير التجارة من الضرائب والرسومات، وتأسيس نظام قويّ للملكية الخاصّة وتشجيع الريادة (A Brief History of Neoliberalism). لكن هذا الفكر المُفعَم بِمُصطلحات جذّابة، مثل "الحرّية" و"التحرّر"، يخبىء دوافع و إجراءات خطيرة. في الواقع، ما أنتجته النيوليبرالية هو عكس "الحرية" و"التحرّر".

منذ تسعينيات القرن الماضي، أعطت حكومات العالم إعفاءات ضريبية وخفّفت الضرائب على الشركات الكبرى وأصحاب الدخول المرتفعة. وقّعت الحكومات اتّفاقيات للتجارة الحرّة، وخفّفت القيود على المضاربة المالية والتدفّق الحرّ لرأس المال. إضافة الى ذلك، تمَّ خَصخصة المُنشآت والشركات الحكومية، والتعاقُد مع القطاع الخاصّ لتقديم أبسط الخدمات الاجتماعية. وتمّ تبرير كلّ هذه الإجراءات بذريعة تمكين القطاع الخاصّ، و تشجيع الريادة وتسهيل بيئة العمل لكي تتمكن الشركات من خلق الوظائف.

لكن ما قد نتج فعلياً لا يمكن وصفه إلّا بالكارثي. أصبحت الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحّة امتيازات مدفوعة وفقدَت صفتها كأبسط الحقوق الأساسيّة. تمّت الإطاحة بِحقوق العمّال وضماناتهم الاجتماعية بعدما بدأت الشركات الكبرى بِنقل مصانعِها إلى دول نامِية حيث الحقوق العمالية شبه منعدمة في ظروف عمل مأساوية. بالإضافة، مهّدَ تخفيض التمويل للِخدمات الحكومية والتركيز على القطاع الخاص لِأشنع أنواع الفساد وسوء الإدارة في القطاع العام. تمّ استغلال الموارِد الطبيعية كما العُمّال بِهدف زيادة النمو الاقتصادي والأرباح للأغنياء وأصحاب الرساميل الكبرى فيما تدهورت الظروف المعيشية عند الطبقات الوسطى والعاملة. بحسب تقرير منظّمة "أوكسفام"، يملك أصحاب المليارات في العالم (أي 2,154 شخص عام 2019) ثروةً أكبر مِمّا يمتلكه 4.6 مليار شخص في العالم أجمَع.

برز فيروس كورونا في هذه الظروف. رأينا أنظمة صحّية حكومية تتدهور حول العالم بِسبب عقود من السياسات النيوليبرالية التي أهملت المستشفيات والمراكز الصحّية العامة مقابل إفساح المجال للقطاع الخاصّ من أجل جني الأرباح.
النيوليبرالية في لبنان: نظام مبنيّ على الطائفية

نظام لبنان الاقتصادي الليبرالي مبنيّ على السوق الحرّ وعدم تدخّل الدولة في التنظيم الاقتصادي، ممّا أدّى إلى بُروز فروقات اجتماعية واقتصادية عميقة، وتركيز الثروة في يد شريحة صغيرة جدّاً من الشعب. تزامَنَ مجيء حقبة النيوليبرالية في لبنان مع انتهاء الحرب الأهلية، وتزايدت كلُّ العِلَل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يعاني منها لبنان قبل وخلال الحرب مثل المحسوبية، الزبائنية، و الرأسمالية الشرسة التي لا ترحم. تمّ إبرام عقود مع شركات خاصّة تحت ظروف غامضة في كلّ القطاعات. تمّ تدمير الحركة النقابية والتحرّكات العمّالية. تضخّم الاقتصاد غير المنظّم الذي يتضمّن عمالة في قطاعات مهمّشة لا تستدعي اهتمام الدولة. تدهوَرَ القطاع العامّ ومعه الظروف المعيشية لِمُعظم الشعب اللبناني في حين كانت القوى السياسية وحلفاءها مُنشغلة في القطاع الخاص لمُراكمة ثروات عملاقة، باذلين أقصى الجهود للحِفاظ على النظام السياسي والاقتصادي كما هو. تمّ توظيف النظام الطائفي كذريعة لكلّ هذا التدهور عبر اللُّجوء إلى الخِطابات الطائفية التهويلية لإسكات أيّ محاولة لتغيير النظام ومحاسبة الفاسدين.

السياسات النيوليبرالية، التي جلبت الفروقات الاجتماعية العميقة، والفساد الشديد، والتدهور البيئي والمشاكل النفسية خاصة لفئة الشباب، كانت في صلب ما أثار اندلاع انتفاضة 17 تشرين. قبل الانتفاضة، كان لبنان يُعاني من أزمة اقتصادية ومالية شديدة، ما لبِثت أن استفحَلَت بشكل فاضح بسبب كيفية التعامل الكارثي مع المطالِب الشعبية التي أثارتها الانتفاضة. تضخّمت معدلات الفقر والبطالة، ودَفَعَ النقصُ في الدولارات القطاع الصحي العام نحو المزيد من المشاكل والصعوبات. في هذا السياق أتى فيروس الكورونا. لكن لم تبذل الدولة اللبنانية الكثير من الجهود لتقديم الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر ضعفا من الشعب، أمّا الأحزاب السياسية (التي تسيطر بطريقة مباشرة وغير مباشرة على الدولة) فلقد هبَّت لِتلميع صورتها من خلال توزيع بعض المساعدات الى ناخبيها.

ماذا بعد؟

بالرغم من تجلّي هَشاشة الفكر النيوليبرالي، يبقى أنّ المنتفعين منه - أي أصحاب الثروات الطائلة والشركات الكبرى وحلفائهم في حكومات العالم - لن يقبلوا بإزالة هذا الفكر والنظام بسهولة. يجب علينا الآن التفكير بِتوفير بدائل اقتصادية وسياسية مبنيّة على توزيع عادل للثروات والموارد أولاً، وثانياً بِتأسيس شبكات مستدامة للتضامن والأمن الاجتماعي التي هي من أهمّ ما يحتاجه سكّان لبنان اليوم. 

لقد تمّ انتهاك كرامة المواطنين اللبنانيين وحقوقهم الأساسية لِفترةٍ طويلة، كما تمّ حرمانهم من التعليم الجيّد والخدمات الصحّية الشاملة والسكن اللائق. تبدو مطالب انتفاضة 17 تشرين ملحّة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مَضَى: ففي غضون ارتفاع غير مسبق للفقر والبطالة، لم تعد إجراءات المحاسبة واستقلاليّة القضاء والعدالة الاجتماعية والتغيير السياسي مسألة تكهّنات بل مسألة وقت، بالأخصّ في ظلّ تفاقم أزمة الغلاء المعيشي وتهديد الأمن الغذائي. فهذه المطالب تحثّ على التغيير الجذري والجدّي لنظام لبنان النيوليبرالي سياسياً واقتصادياً.

فيروس كورونا لا يفرّق بين الطوائف ولا الطبقات. لكنّه قد أثبت أنّ مطالب انتفاضة تشرين وسائر الحركات الاجتماعية الأخرى حول العالم ليست مجرّد أحلام وطموحات بل ضرورات ملحّة. على أمل أن تُشكِّل هذه الأزمة العالمية جرسَ إنذار ليتخلّص اللبنانيون من الفكر الطائفي ويتّجهوا نحو خيار علماني للِمُواطنة والعلاقات بين المواطن والدولة. حان الوقت لبناء دولة غير طائفية ونظام سياسي يؤمّن حياة كريمة لسكّانه ويحرص على دفع الجميع مستحقّاته وحصوله على الخدمات بشكل عادل.

*باحث وزميل مع "غوغل"، مختبر السياسات العامة والحوكمة في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية.