التاريخ: نيسان ٢٧, ٢٠٢٠
الكاتب:
المصدر: the network
مئوية الشيخ المناضل كايد مفلح عبيدات
حتى نظلّ أوفياء لتضحيات الأجداد ونحمي مستقبل الأحفاد
في العشرين من نيسان من هذه السنة تمر الذكرى المئوية (1920 ـ 2020) على استشهاد الشيخ المناضل كايد مفلح عبيدات، أول شهيد أردني روى بدمه ثرى فلسطين العربية وهو يقاوم مع رفاقه الهجرة اليهودية إلى فلسطين والمشروع الصهيوني لإحتلالها. 

لولا الظروف الإستثنائية التي يعيشها الوطن بسبب جائحة كورونا لأحتفل الأردنيون بهذه المناسبة الوطنية بكل ما يليق بها من تكريم، ولتحولت «كفر سوم» مكان ضريح المناضل الوطني الكبير إلى مزار يؤمّه كل أردني حرّ يعشق الأردن وفلسطين، لكي يقرأ الفاتحة هناك عن روحه وعن أرواح شهداء فلسطين والأردن، ولكي يتأمل ويستوحي دروس الوطنية والقومية والفداء ونكران الذات التي لا يزال الأردنيون بحاجة إلى استلهامها بعد مئة عام على استشهاد كايد عبيدات.

لمن لا يعرف سيرة الشهيد البطل، خاصة من الأجيال الجديدة، نُذكّر ببعضٍ من هذه السيرة العطرة. ولد كايد عام 1868 في قرية «كفر سوم» الواقعة شمال مدينة إربد، وورث زعامة عشيرة العبيدات في ناحية الكفارات عن والده الشيخ مفلح الذي كان يوصف بأنه «قوي الشخصية والإرادة، مهاباً، محترماً، صادقاً ودوداً، كريم النفس، لا يرد سائلاً ولا يتوانى عن خدمة أحد». جابه كايد بشجاعة الأتراك وجنودهم ووقف وجهاً لوجه أمام الحاكم التركي وقال له : «إن منطقتنا فقيرة بالمال، غنية برجالها؛ فإن أثقلتم على أهلها بالضرائب، فالثورة هي سبيلنا، ولن نسمح لجنودكم دخول قرانا». 

عندما كشفت الحكومة السوفييتية بعد ثورة أكتوبر الإشتراكية عام 1917 أسرار «الحلفاء»، بخاصة اتفاقية سايكس ـ بيكو، أعلن الشيخ كايد «أن معركتنا ليست مع الأتراك الآن، بل ستكون مع الذين يخططون لتقسيم بلادنا العربية».  بعد صدور وعد بلفور، أعلن كايد أن المعركة القومية قد بدأت فعلاً، ودعا إلى تشكيل قوة عربية ترابط في مناطق طبريا وسمخ وبيسان لمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع بيع الأراضي لليهود الذين باشروا نشاطاتهم التجارية مع بداية الحرب العالمية الأولى. كان الشهيد يعتبر بأن معركة الفلسطينيين والأردنيين هي مع الإنجليز والصهاينة. عام 1919 بدأ يهتم بتسليح أبناء المنطقة، ودعا إلى حمل السلاح فجمع التبرعات وأشرف شخصياً على تسليح مئات الرجال، وشكّل لجنة للتدريب على السلاح والقتال. وبعد مؤتمر «قم» الذي عقد أواسط نيسان 1920 لمناقشة الأوضاع في البلاد، تقرّر القيام بهجوم على الإنجليز واليهود حيث غارت جموع الثوار على سمخ وبيسان وبعض المستوطنات اليهودية وألحقوا بها خسائر بشرية ومادية جسيمة. قاد هذا الهجوم الأول من نوعه الشيخ كايد وقاتل بشراسة حتى استشهد في العشرين من نيسان 1920؛ إذ قامت الطائرات البريطانية بقصف مواقع الثوار. نقل جثمان الشهيد إلى مسقط رأسه وشارك في تشييع جنازته أعداد غفيرة ثمثل قطاعات واسعة من الشعب الأردني (*).

نعم كان كايد عبيدات أول شهيد أردني؛ لكن مئات بل آلاف الأردنيين ساروا بعد ذلك على دربه، سواء كانوا من بين أولئك الذين سعوا لمساندة ثوار فلسطين عام 1936 بالمال والسلاح والذخيرة، أو الذين أودعوا السجون لأنهم كانوا يريدون اجتياز النهر للقتال في صفوف كتائب عز الدين القسّام، أو بين الجنود الأردنيين الذين استشهدوا في معارك حربي 1948 و 1967، أو أولئك الأردنيين الأحرار الذين التحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينية وقاتل العديد منهم جيش الإحتلال الإسرائيلي أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الضفة الغربية وجنوب لبنان، واستشهد منهم أبناء بررة أوفياء لأرض الأردن وفلسطين. 

أين نحن اليوم ـ بعد مئة عام على استشهاد كايد عبيدات وتضحيات آلاف الأردنيين منذ ذلك الحين من أجل الدفاع عن عروبة فلسطين وحريتها واستقلالها ؟

معاهدة «سلام» مع العدو الصهيوني المحتل لفلسطين، وسفارة له في عمّان، وسفارة أردنية في تل أبيب، مع تنسيق أمني... وفوق ذلك : اتفاقية للغاز معه، يرفضها شعب الأردن بالمطلق، تتحول بموجبها أموال الأردنيين الذين هم بأمس الحاجة إليها إلى جيوب دولة الإحتلال لإنفاقها على بناء المزيد من المستوطنات على أنقاض بيوت الفلسطينيين !! وكل ذلك ونحن لا نزال أمام عدو عنصري فاشي لم يتوقف يوماً واحداً عن محاربة الشعب الفلسطيني، ومصادرة أراضيه والتنكيل به، ويعلن جهاراً نهاراً أطماعه التوسعية في ضم غور الأردن ويُعلّم تلاميذه في المدارس كل يوم بأن «هذه الضفة لنا، والأخرى أيضاً» (أي الضفة الشرقية لنهر الأردن) ! هل يا ترى لو اتّبع النظام نصيحة الشهيد المرحوم وصفي التل عام 1968 بضرورة «إنهاك الإحتلال الإسرائيلي بعمليات مقاومة مسلحة يومية من داخل المناطق المحتلة كي يُحرم من التفكير بأي شيء آخر»... هل كان بمستطاع العدو الصهوني العربدة وبناء المستوطنات ومصادرة الأراضي كما فعل، ولا يزال يفعل، منذ عشرات السنين ؟ ها هنا تتبدى مرة أخرى القيمة التاريخية الوطنية والقومية للطريق الذي شقّه كايد عبيدات ورفاقه، وكانوا بذلك ثاقبي النظر ورواداً حقيقيين للنضال الوطني الذي لم يستكمل الأردنيون بعد طريقه. 

أمن أجل «الإعتراف» بإسرائيل وتبادل العلاقات معها، وكأنها «دولة صديقة» روى شهداء الأردن وفلسطين والأمة العربية ـ على مدى قرن من الزمن ـ أرض فلسطين بدمائهم ؟ أي ذلّ وأي مهانة، بل أي عار لا يمكن أن يرضى به أي عربي حرّ أبيّ ؟

طبعاً نعرف جيداً الإسطوانة المشروخة عن «موازين القوى» والنفوذ الصهيوني وهيمنة أمريكا على المنطقة، و«الدمار الذي سيصيب الأردن إذا ما عصى أوامر واشنطن» ؛ وبأن القيادة الفلسطينية قد قبلت بإقامة «السلام» مع «إسرائيل»... ولا يجب أن نكون أكثر حرصاً على فلسطين من الفلسطينيين أنفسهم إلخ....لكننا نذكّر جميع من يردّد هذه الإسطوانة بكلمات كايد عبيدات الخالدة أمام الحاكم التركي : «إن منطقتنا فقيرة بالمال، غنية برجالها». ونضيف ﺑ «الرجال الذين تتساوى عندهم الكرامة والشرف بالحياة، وليس بالرجال الذين تتساوى عندهم العبودية بالحياة». ...الرجال هم الذين يصنعون المال وأشياء أخرى كثيرة، وليس المال من يصنع الرجال. المال يصنع عملاء وخونة وتجار أوطان، لكنه لا يمكن أن يصنع رجالاً أحراراً أوفياء لأوطانهم ولشهداء فلسطين. ونردُ على من يلقى بوجهنا السؤال ـ «التحدي» : «وهل تريدنا أن نحارب إسرائيل اليوم بينما العرب يغطون في نوم عميق ؟»، بالقول : إذا كنا اليوم لا نستطيع إستئناف النهج الذي سار عليه كايد عبيدات وشهداء الأردن لأسباب مفهومة، فلا أقل من أن نحافظ على كرامتنا وشرفنا. فقد ثبت بأن ما وُقّع عليه قبل أكثر من ربع قرن لم يكن «سلاماً»؛ وتطورات العقدين الماضيين أكبر دليل على ذلك. الغطرسة الصهيونية المنفلتة من عقالها تمد لسانها للنظام ـ بعد أن نالت مأربها من «وادي عربة» ـ وتقول له بوقاحة «بإمكانك الآن أن تنقعها وتشرب مائها» ! فضلاً عن ذلك، يُعتبر تمزيق «وادي عربة» مطلب أغلبية الشعب الأردني...هذا إذا كانت رغبة هذا الشعب تعني شيئاً للنظام، مثلما تعني «صحته» التي يهتم بها هذه الأيام. محاربة الوباء الذي يهدد صحة الشعب أمر مهم ويُسجّل لصالح الحكومة؛ لكن الإمتثال لمطالب الشعب السياسية والوطنية، خاصة تلك التي ترتبط بمصير الأردن وفلسطين، لا يقلّ اهمية، لا بل هو ما يكشف عن حقيقة «معدن» السلطة الحاكمة.  

تثبت المئة سنة الماضية بأن كايد عبيدات وسائر الشهداء الذين سقطوا على دربه لم يدافعوا عن فلسطين وحسب، بل وعن الأردن والشعوب العربية وعن أعمق المبادئ الإنسانية. إن التفاف أحرار العالم في أربع أركان الأرض حول القضية الفلسطينية وعدالتها وتأييد نضال الشعب الفلسطيني، وتزايد هذا الإلتفاف بالرغم من شراسة وقوة معسكر العدو، يثبت بأنه لا يوجد اليوم على وجه الأرض معركة مقدسة أكثر من المعركة ضد الصهيونية وربيبتها دولة الإحتلال والفاشية والعنصرية. أي سلام يُقام مع هذه الدولة التي ثبت بأن ديدنها العنصرية والفاشية هو بالتأكيد «سلام عبيد». وهل هناك دليل أبلغ على ذلك مما يسمى «صفقة القرن» التي هي «النسخة الإسرائيلية» ﻠ «حل» الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني ؟؟

بعد مئة عام على استشهاد كايد عبيدات ورفاقه، لا يزال مطروحاً أمام الشعب الأردني المهمات الوطنية التالية التي ـ إذا حققها ـ ستفتح أمامه أفاقٌ عريضة لتطوير حياته ووطنه في ظل مبادئ العدل والسلام الحقيقي والكرامة الوطنية:

1)    العمل بكل الوسائل ـ ومهما طال الزمن ـ من أجل إلغاء معاهدة الذل والعار، معاهدة وادي عربة؛
2)    طرد السفارة الإسرائيلية من عمان وتطهير الأرض الأردنية من أي تواجد للصهاينة عليها، ووقف كل تعامل ـ مهما كان ـ مع «إسرائيل» بإعتبارها العدو الثابت للأردن وللشعوب العربية كافة؛
3)    دعم نضال الشعب الفلسطيني بكل الوسائل من أجل نيله لحقوقه الوطنية المشروعة، وأولها حقه المطلق في التخلص من الإحتلال الإسرائيلي البغيض، وومارسة حقه المطلق في تقرير المصير فوق أرض وطنه؛
4)    محاربة الصهيونية فكراً وممارسة بكل الوسائل، بإعتبارها خطراً جسيماً يهدد الأردن والشعوب العربية والقيم والمبادئ الإنسانية التي كافحت البشرية مئات السنين من أجل تكريسها؛
5)    العمل بكل الوسائل من أجل تخليص الأردن من التبعية للقوى الأجنبية مهما كانت أشكال هذه التبعية سواء اكانت سياسية أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية أو ثقافية. 
بهذا وحده، ومن خلال تحقيق الاهداف المذكورة أعلاه، نكون أوفياء لدماء كايد عبيدات ولشهداء الأمة العربية وفلسطين. ومن خلال هذا وحده، نستطيع أيضاً وبخاصة أن نضمن مستقبلاً آمناً كريماً مشرقاً لأحفادنا ولوطننا الأردني العزيز. 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 *المعلومات الواردة مستقاة من مقالة عن الشهيد نشرها المؤرخ محمود عبيدات في مجلة «الأردن الجديد» العدد 14 ـ أيلول 1989.