| | التاريخ: نيسان ٩, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | الفيروس في خدمة «الاستثناء العربي» - حسام عيتاني | حرّك وباء «كورونا» ساحات النقاش السياسي والفكري. دفعت الخسائر البشرية والاقتصادية غير المسبوقة في التاريخ الحديث وسائل الإعلام إلى طرح الأسئلة الصعبة على الباحثين والمفكرين في مجالات تتجاوز الطب والبحث العلمي والعلاجات وسبل الوقاية. وتخطت التساؤلات والهواجس الأثمان الاقتصادية والمادية التي ستخلّفها الجائحة لتتناول أثر «كورونا» على مستقبل البشرية ككل وعلى أنظمتها السياسية ومعاني الاجتماع الإنساني ككل.
يجري هذا الجدل في العالم. ويبقى العرب –على عادتهم– بدولهم ومؤسساتهم خارجه.
القارئ المتابع لمساهمات «نجوم» الفلسفة والفكر السياسي في الغرب قد يستشرف من مقولات إدغار موران وجورجيو أغامبين وردود سلافوي جيجك ومداخلات نعوم تشومسكي، والسجالات والحوارات التي تدور بينهم أو في مقال يتيم لهنري كيسنجر، بعض ملامح عالم ما بعد «كورونا». غنيٌّ عن البيان أن طروحات هؤلاء وغيرهم لا تستوي فيما بينها ولم يدّعِ أي من أصحابها قولاً فصلاً في الكارثة الحالية. بل هي أقرب إلى مقدمات لنقاش عام ضروري حول أي طريق يتعين على الإنسان سلوكه إذا أراد تجنب تكرار المآسي الراهنة، وقد حدد المساهمون المذكورون بعض النقاط التأسيسية للحوار المنتظر.
وثمة اتفاق على أن العبء الهائل الذي ألقته سياسات النيوليبرالية على البيئة أدى إلى ظهور أجيال جديدة من الفيروسات والأمراض التي كانت طي الغابات والحيوانات البرية وفي معزل عن المجال البشري. استباحت السياسات تلك كل الحدود ودمرت المناخ والتوازن البيئي الضروري للكائنات الحية، ما وضعها في احتكاك مباشر بين بعضها. يقول باحثون إن هذا الوضع ترك الإنسان أعزل في مواجهة طبيعة تخضع لقوانين كونية خارج إمكانات البشر، فكانت ردود الفعل العنيفة في الفيضانات والاحتباس الحراري وحرائق الغابات، وأخيراً في خروج أنواع جديدة من الفيروسات من مكامنها التي لازمتها لأجيال وأجيال. في المقابل، يرى فلاسفة أن تحميل «الإنسان»، بالمطلق، مسؤولية الخراب البيئي والجائحة الحالية، استطراداً، ينطوي على ظلم بحق أكثرية البشر الذين لم يحققوا أي فوائد من تدمير البيئة بل يدفعون ثمن الخطيئة هذه. ويشيرون بإصبع الاتهام إلى من حقق أرباحاً بأرقام فلكية من خلال ممارسات أعلت الربح فوق أي قيمة أخرى، وعلى النيوليبراليين الذين أوصلوا الكوكب إلى هذا الطريق المسدود التخلي عن عنجهيتهم وعجرفتهم، قسراً إن لم يستجيبوا للغة العقل والموضوعية. في حين أن أصحاب السلطة الحاليين يملكون من الجرأة ما يكفي ليطالبوا بفرض قيود جديدة على الحريات العامة والفردية وإدامة حالة الطوارئ مستغلين الكارثة الصحية لتشديد إمساكهم بالسلطة. الحرية والديمقراطية وحكم القانون وغيرها من ثمار الحداثة، دخلت دائرة الخطر وأصبحت بربرية الذكاء الصناعي والرقابة الشاملة، على الأبواب.
في السطور القليلة أعلاه بعض الخطوط العريضة للسجالات المتعلقة أساساً بالغرب الأوروبي والأميركي والتي تشمل تأملاتها الشرق الأقصى، خصوصاً الصين، ليس كمصدر للفيروس ومسؤولياتها الأخلاقية عن تفشيه بسبب تكتمها وتجاهلها سعة الأزمة لدى اندلاعها فقط، بل أيضاً كشريك كامل في العولمة الاقتصادية وفي الأزمات البيئية.
ولا يدعو للدهشة الغياب العربي عن النقاش والتفكير، على مستوى العالم وعلى مستوى البلدان العربية. ذاك أن المحاولات التي شهدتها المنطقة في العقد الماضي لعودة العرب إلى التاريخ والتي أُطلق على مجموعها اسم «الثورات العربية» قد أخفقت إخفاقاً شبه تام، فيما لم تكتسب التجربتان شبه الناجحتين في تونس والسودان بعد قوة الجذب والمثال.
البقاء على هامش التاريخ والتخلي عن مسؤولية صوغه عبر توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، أي تحديداً ما أفضى إليه فشل الثورات العربية، سيُبقي هذه المنطقة في موقع المتفرج على العالم المتغير والمستهلك السلبي لسلعه والمصاب، أخيراً، بأمراضه وفيروساته.
هكذا وقف العرب يتفرجون على انهيار الكتلة السوفياتية السابقة ويتأثرون بما جلبه ذلك عليهم من آثار ليس أقلها خطراً غزو العراق للكويت ثم تفكك العراق. وأخفقت أجيالهم الشابة ونخبهم المثقفة والناشطة في تكريس التغيير الذي بدا واعداً في 2011 وفي 2019 مع الموجة الثانية في العراق والسودان ولبنان والجزائر. وها هم يتلقفون كمستمعين وقراء الجدل الدائر حول مستقبل العالم آخذين على الآخرين «مركزيتهم الأوروبية» ونهاية الحداثة واضمحلال مؤسساتها وأفكارها، من دون أن يقدموا في مقابل هذا التشخيص رؤية لمستقبلهم ضمن المنظومة العالمية ولا حلولاً لمشكلاتهم المتراكمة والمتفاقمة، سواء على شكل مساهمات نظرية عن دور الدولة العربية وعلاقتها بالمجتمع وإمكان أو استحالة بقاء الحال على ما هو عليه أو ماذا يمكن أن يحمل المستقبل من تحولات عميقة في البنى الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية العربية.
ولعل «الاستثناء العربي» سيئ الذكر الذي عاد إلى الحياة بعدما اعتقدنا أنه قد سقط في الشوارع والميادين الثائرة، قد أفلح أيضاً في استيعاب فيروس «كورونا» وتطويعه لخدمة حكم الاستثناء المديد. | |
|