| | التاريخ: نيسان ٩, ٢٠٢٠ | الكاتب: | المصدر: جريدة القدس العربي | | في تحدّي أن نعود إلى سنّ الرشد بعد كورونا | لا يحتاج العالَمُ إلى فيروس كورونا لِتَظهر المثالب والاختلالات فيه، ولا لأزمة مباغتة تصيب المليارات من ناسِه لتَذَكُّر أن التطوّر الرأسمالي والعلمي المذهل ترافق في العقود الأخيرة مع تدمير متسارعٍ للبيئة، وتعميق غير مسبوق للهوّة الفاصلة بين البشر في مجتمعاتٍ وقارات وداخل كلّ منها، وتراجعٍ في أكثر الدول تقدّماً عن خدماتٍ عامةٍ كانت قد سمحت في الحقبة التي سبقت بمقدارٍ من “العدالة الاجتماعية” النسبية فيها. وطبعاً لا يحتاج هذا العالَم لفيروس كورونا كي تبان سطوة خطاب إيديولوجي فيه يُؤْثِر إزالة الحدود الترابية أمام التوسّع الاقتصادي والتسليع (مع بعض الضوابط)، مقابل تشييد الجدران على الحدود إياها لضبط المرور البشري وتقليصه وتحديد شروطه.
على أن الفيروس – الجائحة تخطّى في آثاره اليوم على حيواتنا العامة والخاصة كلّ ما يمكن عادةً للأزمات الكبرى أن تذكّر بوجوده أو تضخّم معالمه وتفاقم انعكاساته. فجعلنا نكتشف كيف يمكن لمكتسباتٍ معيشية أن تتلاشى مؤقّتاً، ولبديهيات مسلكية أن تنحسر، ولأنظمة قويّة أن تتراجع، فتبان هشاشة قدرتها على الاستباق وعلى مواجهة تحدّيات لا ينفع لكفّ شرّها عنفٌ أو قهر أو فرضٌ لتوازن قوى ساحق. ليس لأن المفاجآت العظمى لم تعد من خاصيّات السياسة وإدارة المصالح والأمن فحسب، بل أيضاً لأن إدارة “المُتوقَّع” لم تعد تَعرف سُبل التعامل مع ما يشذّ على قواعد محسوبة اقتصادياً ومُسيطر عليها علمياً ومرتقب شكلُ تطوّرها. ولعلّ هذا، معطوفاً على تقليص موازنات الصحّة وأعداد الأسرّة في المستشفيات العمومية وغُرف العناية الفائقة ومستلزماتها وإهمال حقوق العاملين في الحقل الطبي والبحث العلمي على مدى سنوات، ساهم في إتاحة المجال للفيروس لينتشر ويستوطن مناطق وبلداناً بِحالِها خال بعضُها نفسه بدايةً غير معنيّ مباشرةً به.
البقاء في المنازل كتعامل أبويّ مع قاصرين
إنطلاقاً من عدم المعرفة المذكور، ومن التدهور الخارج عن القدرة على الضبط السريع، لجأت الحكومات في تعاملها مع المواطنين إلى مشروعية سابقةٍ على مشروعيّاتها التعاقُدية المُفترضة، فتحوّلت سلطاتها إلى ما يُشبه السلطة الأبوية في فرضها الطاعة على أبناءٍ وبنات ينبغي إعادتهم إلى بيوتهم ومنعهم من مغادرتها، أو دفعهم للرجوع إلى مدنهم وقراهم ضمن مهلة محدّدة قد لا تتوفّر من بعدها شروط قبولهم. وإذا كان في الأمر ما لا يشذّ كثيراً عن الدارج في ظل الحكومات الاستبدادية أو الأنظمة البوليسية، فإنه في ما يخصّ الحكّام المنتخَبين شأنٌ مستجدّ يتطلّب تفاوضاً وقرارات تستوجب الإقناع المقرون بترغيبٍ وطمأنة. وهذا يعني الدعوة للتخلّي الطوعي لفترةٍ عمّا يُبيحه سنّ الرشد الديمقراطي من حقوقٍ، مقابل حماية الصحّة والوقاية من المرض. ويعني أيضاً تعليق الحياة السياسية وجوانب عدّة من الحياة الاقتصادية، أي الانكفاء عن الحيّز العام والعودة إلى الحيّز الخاص وإلى الوحدات العائلية الصغرى والبقاء فيها، مقابل بعض التعويضات والتقديمات، إلى أن يُؤذَن بالخروج من جديد.
وإذا كان الحجر يبدو ضرورةً، أو على الأقلّ شأناً يسهل تبريره صحّياً، إلاّ أنه يجمّد التعاقدات السياسية والحقوقية القائمة في المجتمعات منذ عقود، ويوهِن الاختلاط والاندماج اللذين قامت عليهما فكرة المواطنة الحديثة. وهو فوق ذلك، يُعيد قسماً كبيراً من الناس إلى مرحلة القصور وما تفترضه من مراقبةِ سلطةٍ لصيقة لمسلك القاصرين المتصارعين كلٌّ على حجز مساحة له داخل المنزل (إن أُتيح الأمر)، أو على تقنين المأكل تجنّباً للسمنة المقترنة بقلّة الحركة، أو على التدقيق في تعداد ثواني غسل اليدين تجنّباً لخطر نجاة الفيروس إن كان قد وصل عن طريق اللمس إلى الجلد المغسول. ويكمّل العودة إلى القصور غالباً تراجع التسامح والكسل المقترن بشجارٍ وبرغبةِ أن يُخدَم المعنيّون (الذكور غالباً) دون بذل الجهد التشاركي كشرطٍ للخدمة ودون الالتزام الراشد بتبدّل الأدوار.
البقاء في المنازل كقصاص أو كتحريضٍ على المظلومين
غير أن “البقاء في المنزل” ليس فقط مسألة حدّ أبويّ مؤقّت من حقوق الأبناء مقابل حمايتهم المُفترضة. فالسلطة الأبوية إذ تتجلّى في الحجر وطقوسه وتدّعي حماية للجماعة وترابها، تغمض عينيها غالباً عمّا تتسبّب به قراراتها من تعميق للمظالم وتحريضٍ على المظلومين. ذلك أنها توهم الجميع أن “البقاء في المنزل” خيار متاح لمن يشاء حماية نفسه وحماية الآخرين. أما الذين يتناوبون على النوم عادة لعدم اتّساع منازلهم لأجسادهم المستلقية، أو الكارهين للمنازل ذاتها وروائحها ولمبانيها الصمّاء في أحياء البؤس وضواحيها، أو الهاربين من عنف آباء عائليين أقل وجاهةً وسلطةً من آباء الجماعة المقرّرين وحُماتها، فلا حضور لهم في خطاب النُصحِ والرعاية، إلّا بوصفهم مضرب مثل محتملٍ، كقاصرين مسؤولين بِطيشهم عن نقل عدوى وإيذاء آخرين. أليس هذا ما تقوله تقارير صحفية أبويّة إذ تصوّر حضورهم في أزقّة وأسواق شعبية، كمراهقين معدومي الوعي يُضطرون الشرطة لنهرِهم وتذكيرهم بتعليمات السلطة الحريصة عليهم أكثر من حرصهم على أنفسهم؟
وحظرُ الحماية لا يأبه أيضاً بمن لم تُسعفه حياته بفرصة دراسة أو عملٍ يُتيحان له البقاء في المنزل في زمن الكورونا. فأن تكون عامل نظافةٍ مثلاً أو نقلٍ عامٍ أو موظّفة صندوقٍ في السوبرماركت أو في مأوى العجزة، أو أن يكون تحصيل قوتك مرتبطاً بأعمال يومية تتطلّب توفّر الناس في الشوارع والساحات كراشدين أصحاب خيارات وقرارات وحرّية تنقّلات، فقصاصك مضمون خروجاً أو عزلةً. المرض متربّص في الحالة الأولى، والعوز والجوع في الحالة الثانية…
هكذا، يُعيدنا كورونا إلى مسالك سابقة على ما عرفته أجيال عدّة تعوّدت على الحقّ في الاختيارات، ويُبرز معالم مالتوسية أو داروينية لم تختفِ أصلاً وإن خفتت أو صارت واحدة من مجموعة عناصر ناظمة لحياة الدول والمجتمعات. فكيف إن وسّعنا مساحة المراقبة ودقّقنا النظر في أحوال عالم (خارج الديمقراطيات) فيه مليارات من الفقراء والمشرّدين واللاجئين والسجناء السياسيّين (وغير السياسيين) المتروكين نهباً للفيروسات والمظالم على أشكالها؟ وكيف إن رصدنا أثر الأزمة والعزل على المعنّفين والمعنّفات في الحيّزين العام والخاص، نساءً وأطفالاً، المُلزمين بالالتصاق بمعنّفيهم والعيش في كنف سلطتهم المُطلقة في المساحات الضيّقة؟
الأهمّ ربما من كل ذلك هو التحدّي الذي سيواجه عالمنا بعد انحسار الجائحة وعودة الحياة إلى “طبيعتها”. هل ستكون استعادة سنّ الرشد متبوعةً بإصلاحات عميقة لنظمٍ وموازنات وبإعادةِ ترتيبٍ لأولويات ولمهام محلية وكونية، أم أن الجميع سيكمل حياته بعد تجميدٍ قسري من دون عِبَر إلّا في ما خصّ البحث العلمي وإنتاج الأدوية واللقاحات، في انتظار الجائحة التالية؟
أغلب الظنّ أن الاحتمال الثاني هو المرجّح اليوم وأن تسلسل الأزمات العامة والخاصة سيُبقي الحجر على أشكاله السياسية والاجتماعية المختلفة مسلكاً له آباؤه وأبناؤه كلّ فترة. | |
|