| | التاريخ: نيسان ٤, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | مستقبل المنطقة العربية بعد وباء "كورونا" | معهد عصام فارس للسياسات
تعصف أزمة انتشار وباء "كورونا (كوفيد-19) " في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، مهددة مجتمعات واقتصادات وحكومات كثير من البلدان. وجاء الوباء في لحظة، كانت تواجه عدد من الدول العربية حركات احتجاج غير مسبوقة من أجل تغيير واقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
تضع هذه الجائحة الدول في المنطقة والنظام الإقليمي برمته أمام تحديات أمنية وسياساتية وجودية، إذ تضرب في وقت تواجه فيه دول عربية أزمات اقتصادية عميقة تراكمت آثارها وسط ركود اقتصادي عالمي، فيما صارت أخرى ضمن عداد الدول الفاشلة أو غير الفاعلة، حيث تدور حروب داخلية وتدخلات عسكرية خارجية على أرضها. وتعمق ازمة الوباء تعثر النظام الإقليمي وتزيد من اخفاقاته.
في هذا الصدد إستمزج "معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية" في الجامعة الأميركية في بيروت، آراء مفكرين مؤثرين وقادة رأي من لبنان والمنطقة حول تأثير جائحة "كوفيد-"19 على البلدان العربية، ذلك على الصعد السياسية والاقتصادية والصحية والاجتماعية، محاولين تقييم مدى وكيفية استجابة الحكومات لهذه الجائحة ومستقبل المنطقة بعيد احتواء تفشي هذا الوباء. تناول الخبراء مستقبل الدولة الوطنية والأمن الإقليمي ومنظومة التعاون من أجل تحقيقه، اضافة الى تأثير مكافحة الجائحة على حركات التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية والتأثيرات الاقتصادية المتوقّعة. كما تناول الخبراء الأنظمة الصحية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية.
مستقبل الدولة الوطنية
طارق متري*
في تسعينيات القرن الماضي، عند تسارع التغيرات العميقة التي شهدها العالم، شاع القول إن الدول الوطنية باتت أصغر لجهة القدرة على معالجة المشكلات الكبيرة وأكبر من حيث التعامل مع المشكلات الصغيرة. وصحّ هذا القول بنسب متفاوتة في غير منطقة من العالم. أما في بلادنا العربية، فبدت دولنا أعجز مما كانت في التصدي للمسائل الكبيرة والصغيرة، إلا ما يتعلق منها بالأمن وسياسات السيطرة.
بعد انفجار الثورات العربية، ازدادت دولنا الوطنية هشاشة، وفي بعض الحالات انهارت مؤسساتها أو تفكّكت. وباتت أضعف من حيث قيامها بأدوارها الأساسية في سياسة شؤون الجماعة الوطنية وحفظ حياة المواطنين وصون حقوقهم. غير أنها، وفي بلدان عدة، استعادت امكاناتها في إخضاع المجتمع بحجّة محاربة العنف، إرهابيًا كان أم سياسيًا أو اجتماعيًا، ومحاذرة الانزلاق إلى الفوضى التي يخشاها الناس.
وبدل أن تخطو بلادنا نحو تميّز أكبر ضروري بين الدولة والسلطة، ازداد استحواذ الأخيرة على الأولى. فتمادت بعض السلطات في اعتمادها، إلى جانب القوة العارية، على العصبيات ما دون الوطنية، طائفية أو قبلية أو جهوية أو سواها مما تلده المصالح الفئوية. ووصلت بعض الأنظمة إلى حدّ التعامل مع المصالح العامة وكأنها ملكٌ خاص، مستندةً بذلك إلى نوع من التماهي بين المحكومين والحاكم، وهو مفروض على المجتمع بوسائل مختلفة. وفي مواصلة استبدادها، أو استحداث أنماط استبدادية متجددة، وكما في السابق، جاهرت بانشغالها بالدفاع عن الكرامة الوطنية فيما تقلّل في الواقع من قيمة الكرامة الشخصية.
وفي الأيام الحاضرة، حيث يفرض انتشار الوباء ومخاطره الكبيرة ابتعادًا وانكفاءًا عن بعض الشؤون العامة، تبرز الحاجة على نحو قاس لدولة تحمي مواطنيها وترعاهم وتغلّب الصالح العام على الأغراض الصغيرة، وأولها شهوة السلطة وطلبها لذاتها، بصرف النظر عما ترغب به أو تستطيعه. ولا تنحصر الحاجة هذه في مجال ضبط المجتمع وفرض انتظامه تداركًا لاتساع المضار الكثيرة. فالضبط المتوخى، إن لم يتلازم مع سياسة اجتماعية رشيدة تُعنى بمن هم أضعف وأفقر، سرعان ما ينزع إلى تبرير مصادرة الفضاء العام وتعطيل السياسة وتقييد الحريات.
بعد انحسار الأزمة الخطيرة الحاضرة، سنجد بلادنا مجددًا أمام معضلة بناء الدولة الوطنية، بوصفها نصابًا محايدًا غير مضاف إلى المجتمع أو قابض عليه، أي دولة تكتسب شرعيتها الفعلية لا من احتكار العنف فحسب بل من مسؤوليتها في رعاية مصالح الناس.
ولعلّ السير في طريق بناء الدولة الوطنية، التي بيّنت أحوال العالم الحاضرة أن لا بديل منها، يستدعي مراقبة السلطة ومحاسبتها والمطالبة لا بنظام قوي في سيطرته بل فاعل في تحقيق صالح مواطنيه العام. فنحول بذلك دون تكرار تجربة عرفناها منذ سنوات حين ارتضى بعض الناس تسلّط السلطات، خشيةً من استمرار الانفلات والضياع والخيبة، فتوهّمت بعض الأنظمة أن المطالبة ببناء الدولة بمثابة دعوة لإدامة استبدادها.
*الممثل الأسبق للامم المتحدة في ليبيا، وزير لبناني سابق ورئيس جامعة "القديس جاورجيوس"/ بيروت
أي صمود للأمن الإقليمي؟
كريم حجاج*
رغم أنّه قد يكون مُبكرًا تقييم الآثار الأمنيّة الإقليميّة لـوباء " كورونا "على منطقة الشرق الأوسط، ينظر المُراقبون إلى بداية انتشار الوباء باعتباره الحدث الأجدّ ضمن سلسلة الصدمات التي هزّت الشرق الأوسط على مدى العقدَين الماضيين. إذ أنّ الغزو الأميركي للعراق، والانتفاضات العربيّة، والحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا، وظهور "داعش" وزوالها، قد جعل بلدان المنطقة في تصنيف الدول الفاشلة. يضاف إلى ذلك، الصراعات الإقليميّة، والكوارث الإنسانيّة، وأزمة الشرعيّة في أنماط الحكم السائدة في المنطقة.
من المتوقع أن يؤدي انتشار "كورونا" على الأقلّ، إلى تنامي هذه الديناميات، كما سيشكّل اختبارًا قاسيًا لمرونة وقدرة صمود ليس فقط دول المنطقة على الصعيد الفردي إنمّا النظام الإقليمي ككلّ. إنّ المهمّة المعقّدة لإدارة الجوانب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة للأزمة ستشكلّ تحديًا كبيرًا لحكومات الدول الإقليميّة، التي إذا فشلت في إدارتها لهذه الأزمة ستواجه أزمة شرعيّة. كما أن هناك اعتماد كبير على قدرة أنظمة الصحّة العامّة في المنطقة على مواجهة الأزمة، علمًا أن الكثير من بين هذه الدول سجّل مستوى أقلّ من المتوسط في مؤشر الأمن الصحّي العالمي.
سيكون تأثير الوباء أكثر حدّة في الدول الضعيفة أو الدول التي توشك على الانهيار إذ أنّها تقع في صميم محاور الصراع المتعدّدة داخل المنطقة. وهذا سيغذي حتمًا حلقة مفرغة من الصراع، واحتمال تجدّد موجات الإرهاب والتمرّد، والتدخّل الإقليمي، الأمر الذي سيؤدّي بدوره إلى خسائر فادحة لدى السكّان في مناطق الصراع المنكوبة.
كل هذا سيزيد، بلا شك، من الضغط على البيئة الأمنيّة الإقليميّة المجهدة أصلاً. لكن رغم ذلك، تقدّم الأزمة فرصة لتقليل التوترات الإقليميّة. إن عرض دول عربية تقديم المساعدة الطبيّة وغيرها لإيران وتأييد السعودية وقف النار الذي أعلنته الأمم المتحدة في اليمن من أجل التصدّي لتفشي الفيروس، يقدّم دلائل على وجود الأمل في أنّ الشرق الأوسط يمكنه على الأقلّ، أن يقلل من تأثير هذه الصدمة الأخيرة للنظام الإقليمي.
*ديبلوماسي مصري سابق وأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة
آثار مكافحة الوباء على حركات التغيير
نديم حوري*
لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بالتأثير الكامل لوباء "كورونا" الذي ينتشر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن هناك ثلاث قضايا تستحق الاهتمام. كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالفعل أكثر المناطق التي تعاني من اللامساواة مقارنة بباقي الأجزاء من العالم.
رغم أن الفيروس لا يميّز بين الأشخاص على أساس ثروتهم، فأن مستوى الدخل يؤثّر على آليّات التكيّف المتاحة. إذ لا يتمتّع العمّال ذوي الدخل المنخفض، في جميع أنحاء المنطقة، بالقدرة على إنجاز عملهم عن بُعد (في المنزل) ولا يحصلون على رواتبهم إذا تغيّبوا عن عملهم. ومع استمرار الحجر المنزلي ودخول الاقتصادات في مرحلة الركود، ستتضرّر شرائح المُجتمع الأكثر فقرًا - التي تشكّل غالبيّة المواطنين - بشكلٍ غير متساوٍ. إذ سيجد اللاجئون والعمّال المُهاجرون أيضًا أنّه من المستحيل التعامل مع تداعيات هذا الوضع. ومع ذلك، لا يبدو أن أيًّا من حكومات المنطقة لديها خطّة حول كيفيّة تقليل الضرر الاقتصادي أو معالجة الانقسام المتزايد في مجتمعاتها.
سيكون لفيروس "كورونا" أيضًا تأثير سياسي أبعد بكثير ممّا يمكن أن يتوقّعه المرء في أجزاء أخرى من العالم. فقد نجح الوباء في تفريغ شوارع المتظاهرين في الجزائر ولبنان والعراق، ورأينا جُيوش المنطقة تستعيد الساحات العامّة بحجة تنفيذ إجراءات "الحجر المنزلي". والخوف يكمن في أن تستخدم الأنظمة الاستبداديّة الوباء لتعزيز السيطرة الاجتماعيّة من خلال الإجراءات التي يتمّ الترويج لها تحت ضغط الضرورة للسيطرة على الفيروس، لتتتبّع أيضًا حركة المتظاهرين والمعارضين.
أخيرًا، لا تزال المنطقة تعاني من ثلاثة صراعات نشطة في ليبيا وسوريا واليمن، والتي دمّرت بدورها البنى التحتيّة الصحيّة وأدّت إلى تشريد الملايين، وفي حال انتشار الفيروس في هذه البلدان، سيعمّ الخراب. يمكن للمرء الذي يواجه هذا العدو غير المرئي الاعتقاد بأن الأطراف المتحاربة وداعميها الإقليميين والدوليين سيغتنمون اللّحظة لمُحاولة إنهاء الصراعات. قد يبدو هذا ساذجًا بشكلٍ ميؤوس منه، لكن ربما سينجح الفيروس في تركيز عقول "أمراء الحرب" في المنطقة بطرق لم تتمكّن معاناة الشعوب لسنوات طويلة من أن تحقّقه.
*المدير التنفيذي لـ "مبادرة الإصلاح العربي"
نحو مراجعة لمنظومة الأمن البيولوجي
الشريف ناصر بن ناصر*
لدى معظم الدول والمجتمعات العربية القدرة الهائلة على الصمود بوجه التحديات، ذلك ربما نتيجة تجربة الدول العربية المريرة مع الحروب والنزاعات والأزمات المتعاقبة خلال العقود الماضية. وتتميز المجتمعات العربية أيضًا بفزعتها لبعضها البعض خلال فترة الأزمات، متجاهلةً المخاطر التي قد تلحق بها بسبب ذلك.
ومع أنه لا يجب إنكار دور هذه العوامل في قدرة الدول على التصدي لتفشي "كورونا"، فأن التعامل الأمثل مع الحوادث البيولوجية يتطلب العديد من العوامل والقدرات والتي تعتبر غالبا مواطن ضعف في معظم الدول العربية، ومنها التخطيط والتجهيز المسبق، والتعاون والتنسيق والتواصل ما بين المؤسسات الرسمية المدنية من جهة والمدنية والعسكرية والأمنية من جهة أخرى. وذلك إضافة إلى التعاون والتنسيق والتواصل بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
لا يتم طرح هذه الأفكار من باب جلد الذات أو إلقاء اللوم على جهة ما، بل من أجل تحديد بعض الدروس المستفادة المحتملة مستقبلاً عند تجاوز هذه الأزمة. فهذا قد يكون حافزاً لمراجعة جدّية لمنظومة الأمن والسلامة البيولوجية في العديد من الدول العربية وبشكل منهجي بهدف تعزيز القدرات والامكانيات لمواجهة المخاطر البيولوجية المستقبلية.
أما التغاضي عن هذا الأمر والاستمرار في بناء السياسات على أفضل السيناريوهات أو الاعتقادات المتفائلة غير المبرّرة باعتبار أن هذا هو آخر تفشي ممكن حصوله، فهو أمر غير عملي.
*مدير "معهد الشرق الأوسط العلمي للأمن"
نحو تكامل إقليمي لتطوير نظم الصحة
بلقاسم صبري*
يشكل الوباء العالمي المستجد تحديًا للتنمية بمختلف أوجهها وللنظم الصحية في كل البلدان وخاصةً في شرق المتوسط. تشير الدراسات الاستشرافية إلى التأثيرات السلبية على مختلف الاقتصادات العالمية من خلال الركود وتراجع النمو الاقتصادي وفقدان ملايين الوظائف ما يحدّ من تمويل النظم الصحية ويؤثر سلبًا على مخرجات النظم الصحية وطنيًا وإقليميًا وعالميًا.
إن حوالى 90 في المئة من سكان الإقليم يعيشون في الدول ذات دخل متوسط وضعيف ما يتسبب في ضغوطات مالية على النظم الصحية التي تشكو من نقص التمويل وعدالته أصلاً. كما تجدر الإشارة إلى أن إقليمنا يأوي أكبر عدد من اللاجئين والمهجّرين الذين يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية غاية في الصعوبة.
إن الدروس الأولية المستخلصة من تجارب الدول في التعامل مع هذه الجائحة أبرزت قوّة وسرعة انتشار الوباء حتى تجاوز في بعض البلدان الغنية مثل إيطاليا وفرنسا الإمكانيات المتاحة، ويهدد في حال عدم تراجعه بانهيار المنظومات الصحية بكاملها.
كما وقع التركيز على الاستراتيجيات الاستباقية للتعامل مع الوباء وتطوير آليات المشاركة الفردية والمجتمعية في الوقاية وتعزيز الصحة، من أجل تفادي الضغوطات الكبيرة على الخدمات العلاجية، بخاصة في ظروف ندرة الموارد المادية والبشرية.
أما على المستوى الإقليمي، أظهرت هذه الجائحة الصحّية أهمية الاستثمار في البنية الصحّية وفي تقوية النظم الصحّية لتطوير الاستجابة للحاجات المستجدة والتعامل مع الأوبئة العالمية. وأثبتت أهمية الوظيفة الاجتماعية للدولة المتمثلة في حماية الأمن الصحي وكذلك الدور المحوري للقطاع الصحي العمومي نظرا لشموليته وقلّة العراقيل المالية للحصول على خدماته مقارنة بالقطاع الخاص.
يحدو الأمل الجميع في تحويل الوباء الى فرصة متاحة لدول الإقليم لتطوير التآزر والتضامن بينها في الميدان الصحي وفي السعي نحو دعم الاستثمار في التنمية الصحية ونحو تحقيق هدف التغطية الشاملة بنظم صحية عادلة تحقق الهدف النبيل للصحة للجميع.
*وزير تونسي سابق ورئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة
نحو نظام صحي يؤمن بالخلاص الجماعي
*غسان أبو ستّة
أظهرت هذه الجائحة أن مجموعة من الشركات الصحيّة الربحيّة، مهما كبر حجمها وكثر عددها لا تصنع نظامًا صحيًّا، وستبقى إلى الأبد شركات متنافسة تتاجر في سلعة، وهي صحّة الإنسان. فلا يمكننا مكافحة هذا الوباء، أو أي وباء آخر قد يظهر مستقبلاً، إلّا بالقضاء على ظاهرة تسليع صحّة الإنسان، وهذا يتطلب تغييرًا في عقلية النظم السياسية، ذلك أن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالخلاص الجماعي وتؤمن بالخلاص الفردي، لن تكون قادرة حتمًا على محاربة هذه الجائحة.
كما أن هذه الأنظمة التي نتحدث عنها هي تلك الرأسمالية التي دائمًا كانت تضحي بفئات مجتمعيّة (تصل حدّ الإبادة) أكانت عرقيّة أو اجتماعيّة (نساء، أطفال، أقليّات عرقيّة) للخلاص من أزماتها البنيويّة، وهي الآن ما فتأت تروّج لفكرة "مناعة القطيع" والتضحية بكبار السن لإنقاذ الاقتصاد من العواقب المدمرّة. وبالتالي، لن يكون تقديس الحلول التكنولوجيّة السريعة مثل اللقاحات، كوسيلة للهروب من هذه الضرورة التاريخيّة، إلا تعمية عن المشكلة الأساسية، كما لن يؤدّي ذلك إلّا إلى إطالة أَمَد المُعاناة الإنسانيّة وزيادة حصيلة الوفيّات.
ولعل فشل دول الغرب المتحالفة في إظهار الحدّ الأدنى من التضامن مع دولة غربيّة أساسيّة كإيطاليا، رغم انخراطها بمنظومة المساعدات الدوليّة للعالم الثالث، يُظهر جليًّا الفرق الشاسع بين "العون" و"التضامن" كمنظومة أخلاقيّة.
لقد أثبتت النيوليبراليّة والرأسماليّة المتقدّمة أن ازدهارها مرتبط بتدمير جميع أشكال التضامن بين أفراد المجتمع. وهنا تحديدًا تكمن أزمة هذه النظم البنيويّة في مواجهة هذه الجائحة، ذلك أن التضامن المجتمعي شرط لمواجهة هذا الوباء. ويضاف الى ذلك، ضرورة إيجاد نظام صحي فعّال وقادر على سرعة الاستجابة في مثل هذه الظروف، مع التشديد على أن الطب الفعّال والناجح هو نتاج الأنظمة الجيّدة وليس نتاج المؤسّسات الطبيّة الثريّة، أو التكنولوجيا المتقدّمة.
*طبيب ميداني فلسطيني ومؤسس "برنامج طب النزاعات" في الجامعة الأميركية في بيروت.
تمكين المرأة اقتصاديًا وتشريعيًا واجتماعيًا
فاديا كيوان*
في خضم العاصفة التي یحدثها التفشي العالمي لـ "كورونا" القاتل، یعود الحدیث عن تداعیات هذه الكارثة على النساء في العالم العربي. اذ تشكّل النساء في الأحوال العادیة الحلقة الأضعف في المجتمع لجهة عدم حصولها على خدمات الحمایة والوقایة الصحیة والاجتماعیة.
إن أنظمة الضمان الصحي والاجتماعي تغطي بخدماتها الفئات العاملة دون سواها وذلك حتى سن التقاعد، متغاضيةً عن حمایة الفئات غیر العاملة وتلك التي تجاوزت سن العمل. وتشكّل النساء جزءًا كبيرًا من هاتین الفئتین. ولا يستفيد من هذه الخدمات إلا العاملین في القطاع الاقتصادي الرسمي من دون أن تغطي القطاع الاقتصادي الهامشي، حیث تعمل نسبة كبيرة من النساء في عالمنا العربي.
في ضوء ما تقدم، یمكن الجزم بأن الأزمات الصحّیة والاقتصادیة والمجتمعیة الناتجة عن انتشار وباء" كورونا"، سيكون لها تداعیات كبرى على النساء بصورة خاصة. أضف إلى ذلك، وجود ملایین اللاجئين من الحروب والنزاعات المسلحة في أغلب الدول العربیة، الذين لا يحصلون على خدمات صحیة وقائیة كافیة وأغلبيتهم من النساء والأطفال.
من هنا، تكمن أهمية دعم النساء في العالم العربي وبخاصة في مرحلة تفشي الوباء، كونهن يلعبن دورًا رئيسيًا في تماسك الأسرة والحرص على بقاء أفرادها في البیوت. كما تساهم النساء في تعزيز الأمان النفسي لكل أفراد الأسرة وهن ضابط إیقاع لكل ما یجري في البیت وبخاصةٍ في شؤون التوعیة على النظافة والتعليم.
قد تؤدي هذه الأزمة أيضًا إلى تنامي دور النساء في الحیاة الاقتصادیة بعد انتهاء فترة الوباء والسعي للنهوض الاقتصادي.
أدّت السیاسات الحكومية المشجعة للفتیات والنساء على الالتحاق المدرسي والجامعي وعلى الانخراط في العمل المنتج اقتصادیًا إلى تعزيز قدرات النساء في العالم العربي. لذلك يجب العمل على تعزیز التشریعات التي تحمي المرأة والفتاة من العنف وبخاصة العنف الأسري والذي من المتوقّع أن يزداد بفعل الأزمة الخانقة وبقاء الجمیع في البیت. كذلك، على السیاسات العامة التي ستعتمد في مختلف الدول العربیة لتعزیز الصمود في زمن الكوارث، أن تعتمد مقاربات حسّاسة للمساواة في الفرص بین الجنسین، بحیث تستفید النساء مباشرةً من برامج التوعیة والتثقیف والتمكین الهادفة إلى تعزیز قدرات المجتمع بكامله على الصمود والتصدي للكوارث بأدنى كلفة ممكنة.
إننا نمرّ بتجربة استثنائیة على الصعيد العالمي، علینا الاستفادة من دروسها لنكون أقوى وأكثر صمودًا أمام كل أنواع التحدیات. والعبرة هي أنه بدعم النساء تتضاعف قوة مجتمعاتنا.
*المديرة العامّة لـ "منظّمة المرأة العربيّة"
الاستثمار في الازدهار والمساواة
لينا أبو حبيب*
أدى الوباء إلى تبعات مدمّرة خطيرة على حياة الناس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولا سيّما النساء والفتيات واللاثنائيات واللّاجئات والمشرّدات وكذلك النساء ذوات الاحتياجات الخاصّة. فقد كشفت التقارير الأخيرة بالإضافة إلى الملاحظات والروايات حول الوباء عن مجالات قلق كثيرة في المنطقة، بينها زيادة حالات العنف المنزلي أثناء الحجر وانه في حال توفرها، قد تكون الخدمات لحماية النساء والفتيات اللّواتي يتعرضن للعنف، غير فعّالة أو ضعيفة (مثل الخطّ الساخن، الدعم القانوني، الدعم النفسي والاجتماعي، وغيرها)؛ وضعف قدرة مجتمع المثليين في الحصول على الرعاية أو التماسها؛ اضافة الى تصاعد محنة اللّاجئين والنازحين خصوصًا أنهم ليسوا من الفئات التي تقع في دائرة الاهتمام الأولى؛ تزايد خطورة وضع عاملات المنازل المُهاجرات وكذلك حجم العمل الملقى على أكتافهن، مع العلم أن غالبيتهن تعشن أساسًا، ومن قبل انتشار الفيروس، في حجر منزلي فعلي وفي ظل ظروف حياة وعمل سيئة؛
يضاف الى ذلك، خسارة العديد من النساء لأعمالهن التي يمارسنها من دون عقود قانونية؛ وفقدان النساء للعمل في القطاعات النظامية حيث يتمّ توظيفهن بأعداد كبيرة في قطاعات الضيافة كالفنادق على سبيل المثال، وزيادة أعباء الرعاية التي تقوم بها المرأة أثناء الحجر المنزلي؛
في المجال العام، لم يتم بذل الكثير من الجهد لفهم محنة النساء في قطاع الرعاية الصحيّة ومعالجتها، بخاصّة بالنسبة للعاملين في الخطوط الأماميّة لمواجهة انتشار الفيروس مثل الطبيبات والممرّضات والمساعدات وعاملات التنظيف، إلخ ...). لوحظ على سبيل المثال أن الممرّضات في المستشفى الرئيسي في لبنان الذي يعالج المصابين بكوفيد- ١٩(مستشفى رفيق الحريري الجامعي الحكومي في بيروت) يحصلن على نصف راتب منذ بدء الأزمة الاقتصاديّة!.
أثناء التحضير لمرحلة ما بعد "كوفيد-١٩" من المهمّ أن نأخذ في الاعتبار أن هذا الوباء قد تفاقم بسبب عدم المساواة الجندرية والاجتماعية القائمة أساسًا بين الجنسين. لذلك، ينبغي زيادة الجهود من أجل تطوير السياسات العامّة التي تعتمد مقاربة قائمة على التعددية وحقوق الإنسان.
هناك تغيير كبير مطلوب نحو اعتماد أنظمة وسياسات تضمن المساواة والمشاركة والتوزيع العادل للموارد والثروة والسلطة، بالإضافة إلى الاستثمار في رفاهيّة الناس التي يجب أن تكون مضمونة بالنسبة لكل الفئات الاجتماعيّة والجندرية والهوياتية.
*زميلة باحثة في "معهد عصام فارس" في الجامعة الأميركية في بيروت
الرابحون والخاسرون على الصعيد الاقتصادي
سامي محروم*
إذا كان من عبرة يمكن استخلاصها من تجربة كل من الصين أو هونغ كونغ أو سنغافورة أو تايوان في التعامل مع انتشار الفيروس ، فهي أن أي بلد بحاجة إلى ما لا يقل عن ثلاثة أشهر كمعدل زمني للسيطرة على انتشار الفيروس.
وهذا مع الافتراض أن هذا البلد يستطيع أن يحتوي تفشي الوباء بشكلٍ فعّال. في الواقع، وعلى الرغم من نجاحها النسبي، لم تتمكّن أي من هذه الدول من القضاء على تفشي الوباء بشكلٍ جذري حتى الآن. وإذا تمّ اتّخاذ تجارب هذه البلدان كمثال، فإنّ التوقّعات المُتفائلة تُشير إلى أن الشرق الأوسط قد يتمكن من احتواء تفشّي الوباء بحلول حزيران/يونيو) تقريبًا، أي في الفترة الزمنية نفسها لتوقع احتواء أوروبا للوباء. أمّا الولايات المتحدة الأميركيّة، فقد تضطر إلى الانتظار حتى نهاية الصيف لتدخل في مرحلة السيطرة على انتشار الفيروس، نسبةً لمساحتها الشاسعة ونظام حكمها اللّامركزي.
ستدُير أجزاءً مُختلفةً من العالم "عاصفة الفيروس" بمُستويات مُتفاوتة من الفعاليّة والسرعة. إذ أنّ البلدان ذات الموارد المحدودة ستكافح لفترة أطول وستظلّ تشكّل خطرًا على انتشار الوباء في بقيّة العالم. ونتيجة لذلك، نرجّح أن يحتاج العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللّاتينيّة والشرق الأوسط إلى فترة أطول لمُكافحة "كوفيد-١٩". في الواقع، وبالنسبة للعديد من البلدان، إن أزمة الفيروس لن تنتهي إلا باكتشاف واستخدام اللقاح.
سيكون لهذا الجدول الزمني المتوقع آثارًا اقتصاديّة كبيرة على الاقتصاد العالمي، وبخاصّةٍ على النشاطات الاقتصاديّة ذات الطابع الموسمي مثل السياحة. إذ تعدّ السياحة في الشرق الأوسط، خارج الاقتصادات الغنيّة بالنفط، النشاط الاقتصادي الأكثر تأثّرًا بالتدفقات الدوليّة وبالتالي الأكثر تأثرًّا بأزمة كوفيد-١٩. استقبلت المنطقة في العام ٢٠١٨ نحو ٨٧ مليونًا من السيّاح القادمين من مختلف بلدان العالم، أي ما يُعادل ٦٪ من إجمالي عدد السياح في العالم. لذا فإن أزمة كوفيد-١٩ ستكون الأكثر ضررًا على المنطقة من خلال ضربها لقطاعي السياحة والنفط.
سيكون صيف ٢٠٢٠ موسمًا سياحيًا ضائعًا لمعظم البلدان حول العالم، من ضمنها منطقة الشرق الأوسط بالتأكيد. لكن بالنسبة للبلدان القليلة التي قد تتمكّن من القضاء باكرًا على أزمة تفشّي الفيروس، فقد تتمتع بازدهار سياحي قصير المدى هذا الصيف. إلا أنه ومع استمرار الخوف من تصاعد جديد لتفشي الفيروس، نتوقّع أن يكون معظم النشاط السياحي هذا العام ذات طابع داخلي.
ومع ذلك، هناك احتمال لبروز بعض الفائزين أيضًا. على سبيل المثال، قد يخاطر سكان دول الخليج العربي، حيث تصل درجات الحرارة في الصيف إلى نحو ٤٠ درجة مئويّة، بالسفر إلى الخارج لكن خياراتهم ستظل محدودة. وهنا، قد تكون بعض البلدان خارج المنطقة التي لم تسجّل عددًا كبيرًا من حالات كوفيد-١٩، مثل موريشيوس وسيشيل وجهات محتملة لهؤلاء وبالتالي، يمكن لهذه الدول أن تستفيد بشكل واضح من هذه الأزمة. لكنّ الوجهات التقليديّة الأخرى للسيّاح الخليجيين، مثل لبنان، الذي لم يسجلّ عددًا كبيرًا من الحالات حتى الآن، قد يحصد الاستفادة الكبيرة كذلك إذا تمكن من الخروج من "عاصفة كوفيد-"١٩ في الوقت المناسب، أي قبل بدء موسم العطلة الصيفيّة.
*أستاذ في "جامعة بروكسيل الحرّة"
إدراج اللاجئين في الخطط الوطنية للاستجابة
شادن خلاف*
يقول الشاعر جبران خليل جبران: "شيئان يغيران نظرتك للحياة، المرض والغربة".
حظر تجول، إغلاق للمحال، منع من السفر، انفصال عن الأسرة، نقص في المواد التموينية، قلق وهلع وخوف. هذا حال العالم اليوم مع جائحة "كورونا". لكن هذا هو واقع الملايين من اللاجئين من رجال ونساء وأطفال أجبروا على مواجهة الحروب والصراعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، والمشهد يبدو أكثر حدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مقارنةً مع باقي العالم.
هناك تحديات جمة تواجه اللاجئين وأولئك الذين تقطعت بهم السبل؛ ابتداءً من الظروف المعيشية الصعبة، التكلفة الباهظة للحصول على الخدمات الصحية، مروراً بالفقر والاعتماد على المساعدات أو الأجور اليومية، وصولاً إلى نقص في الحماية القانونية وسبل الاقتراض المحلي وحرمان الأطفال من فرص التعليم. علاوة على هذا كله، فإنهم الآن يواجهون، مع العالم بأسره، تحدي الوباء العالمي الجديد.
إن الوتيرة السريعة لانتشار " كورونا"، تجعل الوضع مقلقاً بشكل خاص لأولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى خدمات وأدوات النظافة الأساسية، أو لا يستفيدون من الاستجابة للأوضاع الخاصة بالمرأة اللاجئة، أو للمهمشين الذين يعانون ظروفاً صحية صعبة، والتي هي، في كثير من الأحيان، الصبغة السائدة لأوضاع اللاجئين التي من شأنها أن تضاعف من معاناتهم.
ولكن هناك فرصة. يجب الاستمرار في بذل جهود جماعية ومتضافرة كمجتمع ككل: مؤسسات مجتمع مدني، مؤسسات دينية، قطاع خاص، أكاديميين، فنانين وكل من يؤثر في الرأي العام، من أجل إيجاد حلول شاملة للملايين في المنطقة والاستفادة من الخبرات الطويلة لإدارة الأزمات. لذلك تعكف المنظمات الإنسانية بخاصة "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشركاؤها على دعم نظم الصحة العامة والوقاية والاستجابة، كما على إدراج اللاجئين في الخطط الوطنية للاستجابة لهذه الأزمة. إن استبعاد اللاجئين من الوصول للخدمات الأساسية أو التهميش - بسبب نقص شبكات الأمان الاجتماعي والاقتصادي – سيؤدي إلى تدهور أوضاعهم الحالية بشكل واضح.
*مسؤولة في "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" | |
|