| | التاريخ: آذار ٣٠, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | ما بعد الأزمة... تأملات في اليوم التالي - سام منسى | فيروس ميكروسكوبياً متناهي الصغر أوقف عجلة الحياة على الأرض حتى بات الحديث عن أي مشكلة محلية كانت أم إقليمية ودولية تافهاً، يستنفد طاقة نحن بأمس الحاجة إليها. سال كثير من الحبر توصيفاً لفيروس كورونا المستجد وتحليلاً لأسبابه واستشرافاً لذيوله الوخيمة، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بدفق «وبائي» من المعلومات زاد من تشويشنا وفاقم قلقنا. وبتنا نقف حائرين أمام أسبابه التي تراوحت بين حساء الوطاويط مروراً بالمؤامرات بين القوى الدولية، وصولاً إلى الغضب الإلهي، وجاهلين أمام تداعياته المستقبلية والفترة الزمنية لتخطيه، ومشمئزين مما يتداول بشأن تنافس مستهجن بين مراكز الأبحاث ودول وراءها لاجتراع لقاح ناجع ودواء شافٍ له، لعله ليس إجلالاً لقسم أبقراط، إنما للحصول على حصرية تعزز سلطة وتدر مكاسب مالية تجارية.
وفي زمن الخلوة الاضطرارية مع النفس، فرض هذا المشهد «الكوروني» العالمي أسئلة عدة تبدأ بتعامل مختلف الأنظمة معه وتعاطي الدول الحلفاء أو الخصوم مع بعضها وتبعات ذلك على العلاقات الإقليمية والدولية مستقبلاً، لتصل إلى الشأن الإعلامي ومدى مهنيته، وتتوج بكشف هذا الفيروس لجراثيم تفتك بأخلاقيات العالم، ورفعه الغطاء عن نقاط ضعف جوهرية في سلم قيم البشر لا سيما في العالم الأول، أظهرت خللاً في التضامن الإنساني واستنساباً ممجوجاً في معنى الحفاظ على النفس البشرية.
في الشأن السياسي، صدمنا أولاً بانعدام الشفافية في التعامل مع هذا الوباء لدى الأنظمة الأوتوقراطية كالصين مثلاً، بدءاً من اعتقالها مكتشف ظهور الفيروس المستجد الدكتور لي وين ليانغ الذي توفي لاحقاً في ظروف ملتبسة، واتهامه بترويج إشاعات تضعف الروح الوطنية وتضر بسمعة البلاد، وصولاً إلى تستّرها عن حقيقة عدد الإصابات والوفيات وكيف تمكنت من كبح لجام هذه الجائحة القاتلة. وإلى ذلك، أظهرت بعض الأنظمة الثيوقراطية كإيران، استخفافاً بالحياة البشرية عبر الترويج لخرافات شفائية بدل اعتماد الصحيح من العلم، وطال استخفافها حياة شعوب دول أخرى، خصوصاً تلك التي تدور في فلكها، عبر إمعانها في مواصلة الحركة البرية والجوية دون أي رادع أخلاقي. وتبدى لدى هذه الأنظمة مجتمعة محاولات للتستر على أسباب تفشي الفيروس، ليس خوفاً من الرأي العام المحلي بل استغلال للوباء في صراعها مع قوى أخرى، فروجت لنظريات المؤامرة لتبدأ الصين باتهام الجيش الأميركي بالوقوف وراء انتشار الفيروس في ووهان، وتبعتها روسيا ولحقت بهما إيران التي اعتبر مرجعها الأعلى، علي خامنئي، أن ما يجري هو حرب بيولوجية تشنها الولايات المتحدة ضد بلاده.
وصدمنا ثانياً بالتصدع في علاقة الحلفاء الغربيين بعضهم ببعض، في ظل مسارعة دول الاتحاد الأوروبي كما أميركا الشمالية، إلى إغلاق حدودها وامتناعها عن مساعدة الأحوج بينها، في إعلان صريح لسقوط العولمة وهشاشة الديمقراطيات. في إيطاليا، هناك من رفع علم الصين، وأكثر من دولة ديمقراطية جاهرت بانكفائها القومي كبديل عن الانفتاح، وسمعت صيحات استنكار تندد بتخلي الديمقراطيات عن بعضها. وجاء هذا الفيروس أيضاً ليختبر الحوكمة في هذه الديمقراطيات وقدرتها على إدارة الأزمات الطارئة وصلابة نظام الرعاية الصحية لديها. وللأسف نقول إنها لم تكن على قدر المتوقع منها، إن على صعيد إدارتها الوطنية لهذه الأزمة أو على صعيد مشاركتها في الإدارة العالمية لها. وانجلى أيضاً نوع من الشعبوية في التعامل مع الأزمة دلّ على أن صناديق الاقتراع، تبقى المحرك الأكبر لمواقف بعض القادة وسياساتهم وتجاهلهم المصلحة العليا لما فيه خير البشرية جمعاء. عورات عدة ظهرت خلاصتها أن هذه الديمقراطيات استثمرت في وسائل الموت العسكرية أكثر مما استثمرت في وسائل الحياة والحفاظ على النفس البشرية.
أما في الشأن الإعلامي، فيصح وصف ما نراه ونسمعه بأنه انحدار للإعلام، لا سيما لبعض وسائله المرئية والمسموعة إلى مصاف الصحافة الصفراء، لجهة إثارته الخوف والهلع تحت غطاء التوعية، وعدم التزامه ببث الحقائق الموثقة ودخوله ساحة المعارك السياسية والكيدية من أجل مصالح ضيقة. وفيما تضج هذه الوسائل الإعلامية برسوم بيانية حول ارتفاع عدد الإصابات والوفيات جراء الفيروس المستجد، قليلة هي البيانات التي تعلمنا عن عدد الذين تماثلوا للشفاء أم معلومات أخرى حول الفئات العمرية للمتوفين وحالتهم الصحية قبل إصابتهم. وفي الولايات المتحدة وبغض النظر عن موقفنا من إدارة الرئيس دونالد ترمب، كان رئيس أركان البيت الأبيض بالإنابة، ميك مولفاني، محقاً عندما اتهم الإعلام الأميركي بإثارة الذعر حول فيروس كورونا، أملاً في إطاحة الرئيس.
في الشأن الأخلاقي، ومع الأخذ بعين الاعتبار غريزة البقاء وحس المسؤولية المجتمعي والوطني، فإن هذه الأزمة ظهّرت عللاً عدة في سلم قيم البشرية؛ أولاها الاستنسابية في معنى المحافظة على النفس البشرية، وثانيتها الفردانية والأنانية لدى الأفراد والمجتمعات والدول. فما معنى أن نهلع أمام توقعات وفيات ونبقى لا مبالين أمام وفيات مفجعة تحصدها الحروب المنتشرة في أكثر من منطقة بالعالم؟ هل يعلم من يفترض به أن يعلم أن يوماً واحداً من القصف بالبراميل المتفجرة في سوريا يكاد يحصد ما يحصده فيروس كورونا في اليوم؟ وهل يدرك العالم الأول أن الفقر والمجاعة في دول العالم الثالث يحصدان ضحايا أكثر مما حصده فيروس كورونا؟ وهل تدرك الديمقراطيات أن التعذيب والإذلال وحيونة النفس البشرية في سجون الأنظمة الشمولية أشد فتكاً على الإنسان من الموت نفسه؟ هل بات العالم الأول يدرك اليوم أن البشر يعيشون في عالم واحد وأي خطر في بقعة منه يمكن أن يصيب أبقاعه الأخرى؟ والمخاطر ليست كلها صحية وبائية أو ناتجة عن كوارث طبيعية، بل هي أيضاً مآسٍ ومظالم من انعدام العدل والمساواة.
مع ذلك، بعد طوفان فيروس كورونا يبقى الأمل في أن يجري العالم مراجعات عدة لبلورة عولمة أكثر إنسانية، لعل ملامح بدايتها بدأت من مقررات قمة العشرين الافتراضية الأسبوع الماضي.
وعلى الرغم من الهنات التي يعاني منها النظام الديمقراطي الليبرالي، لا بد من رفض وإدانة الأنظمة القمعية، ولو نجح بعضها في احتواء الأزمة. إن موجة الافتتان بالنموذج الصيني ستخبو سريعاً، كونها وليدة حنين مرضي للشيوعية المنقرضة، وأداء الأنظمة القمعية جاء ليثبت أن القوة الاقتصادية والقوة العسكرية لا تدخل أصحابها نادي القوى العظمى، إذا لم تترافق مع احترام حقوق الإنسان وما يتطلبه ذلك من شفافية ومساءلة.
إن أزمة بهذا الحجم غير المسبوق من الخطورة لا بد بعد تجاوزها من أن تؤدي إلى مقاربات تحدث تغييراً في عمق الرابطة الإنسانية، لحمايتها من العولمة المتوحشة كما من الأنظمة المستهترة بالحق في الحياة الآمنة. | |
|