| | التاريخ: شباط ٢٧, ٢٠٢٠ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | الوعي الخرافي: فخر الدين منقذاً للاقتصاد اللبناني - حسام عيتاني | عندما تتعذر السياسة، تدخل الخرافة. وحيث يفشل الإصلاح يبرز اللامعقول. تختفي السياسة كعنصر عقلاني في التعامل بين البشر إذا أصرّ هؤلاء على التمسك بتصور مفارق للواقع عن أنفسهم ومجتمعهم.
والعونية، كتيار سياسي قام في جانب منه على نسج أساطير عن تحديه الواقع في سبيل تغييره وتشكيله بالشكل الذي يرتئيه الزعيم الملهم والفذّ، غير قادرة على تقديم رؤية لمستقبل بلد متعدد مثل لبنان. تتجاوز معضلة الوضع اللبناني الحالي قدرات العونيين على التحليل، ناهيك بتصور الحلول اللازمة للخروج من المآزق الكثيرة التي وصل إليها البلد، وجلها من النوع الذي ينطوي على خطر تفجير البنى السياسية والاقتصادية القائمة. الحل العوني هو البحث عن معجزات تنقذ الحاضر، في الماضي الذي تغلب عليه الأساطير وقصص الخيال.
منذ اندلاع الانتفاضة اللبنانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لم يقدم المتحدثون باسم «التيار الوطني الحر» الذي يترأسه صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، تفسيراً مقنعاً واحداً عن سبب التدهور السريع والشديد لمؤشرات الاقتصاد والاجتماع كافة في لبنان، منذ تولي عون منصبه قبل 3 سنوات. السيطرة مع الحلفاء على الأكثرية في مجلسي الوزراء والنواب، والتحكم في القضاء والإعلام، وفرض برامج لبناء السدود المائية، وما شابه من المشروعات غير المجدية، تقول كلها إن التيار العوني لم يكن معزولاً عن أدوات التسلط على المال والمجال العامين. مع ذلك، جاء الفشل ذريعاً والسقوط مدوياً.
بداهة أن العونيين لم يكونوا وحدهم في السلطة منذ انتخاب زعيمهم رئيساً. بل كانوا جزءاً من ائتلاف يحكم وفق الصيغة القائمة حالياً منذ مايو (أيار) 2008، والأحداث التي شهدها، ونزعت تداعياتها استئثار فريق 14 آذار بمواقع القرار، غير مأسوف عليه. أي أن التيار الوطني الحر يحوز القسم الأكبر من التمثيل المسيحي في إدارات الدولة وأجهزتها، ويهيمن مع حلفائه المسلحين على الحكم منذ 12 عاماً. وهذه مدة تكفي لنقل أي بلد في العالم، من حال إلى حال إذا تبنى أصحاب الشأن خططاً ورؤى إصلاحية. بيد أن ذلك لم يحدث. فقد تمسك كل فريق بسرديته ومظلوميته، من نفي ميشال عون إلى اغتيال رفيق الحريري، وصولاً إلى خوف وليد جنبلاط من الفناء الديموغرافي... إلخ، لتبرير دوام صيغة من الشراكة في الفساد والنهب وشراء الوقت.
انتهى الوقت القابل للشراء في 17 أكتوبر 2019. ولم يجد «التيار الوطني الحر» غير لوم الآخرين للهروب من تحمل حصته من المسؤولية عن الفشل العام الذي نخر أركان الدولة وأُسُسها. «لم يدعونا نعمل» أو «ما خلونا نشتغل»، هي العبارة التي يرفعها المسؤولون العونيون رداً على التساؤلات عن أسباب الخراب الذي خلفه حكمهم كشركاء أو كمحتكري سلطة. وتحفل تصريحات العونيين بقصص عن حسن إدارتهم وسوء طوية الخصوم الذين عرقلوا مشروعات وإنجازات كانت لتضع لبنان في مصاف الدول الصناعية الكبرى، حاول «التيار الوطني الحر» تنفيذها. والحق أن أياً من المشروعات التي يشير العونيون إليها لم تكن غير خطط للاستيلاء على المال العام أسوة بغيرهم من القوى السياسية - الطائفية الحاكمة.
اضمحلال المبررات والتفسيرات وصل إلى مرحلة تدعو إلى الرثاء بإزاء المستوى الرث للخيال العوني. فوسيلة الإعلام الأهم لدى التيار، محطة تلفزيون «أو تي في»، استضافت قبل أسبوع شخصاً قدمته على أنه أستاذ جامعي وخبير اقتصادي، «كشف» أن الأمير فخر الدين الثاني المعني الملقب بـ«الكبير» ترك ما قيمته 111 مليون دولار في أحد مصارف مدينة توسكانا في مقاطعة فلورنسا الإيطالية عندما أقام هناك في الربع الأول من القرن السابع عشر. يتابع «الخبير الاقتصادي» أن الثروة تلك قد تضاعفت وفقاً لأسعار العملة والفائدة الحالية، وهي تبلغ اليوم ما بين 4 إلى 5 مليارات دولار، يتعين على لبنان استعادتها لتساهم في علاج أزمته الاقتصادية.
سنُنحي جانباً المغالطات التاريخية عمّا تركه فخر الدين في توسكانا، أو لم يترك، وعن كيفية تكاثر تلك الثروة الوهمية. وسنتجاوز عن درجة اليأس التي ينضح بها كلام «أستاذ جامعي» لا يجد مخرجاً من الكارثة التي ساهم حزبه بوصول لبنان إليها إلا في الرجوع إلى تاريخ متخيل لا يصمد أمام أي مساءلة أو تدقيق، ولن نتناول المستوى المزري الذي انحط إليه الإعلام اللبناني، جاعلاً من المنجمين والمشعوذين وأدعياء الخبرة والمعرفة ضيوفاً دائمين على صفحاته وشاشاته. وسنطرح السؤال عن المستقبل وإمكان بنائه في ظل أحزاب وتيارات تستثمر في الكذب على المواطنين، وإغراقهم في الخرافات وقصص الجان وجزر المرجان، هرباً من الواقع الكالح السواد الذي قادت البلاد إليه. المأساة أن أحزابنا هذه لا ترى بديلاً عن نفسها في سدة الزعامة، والأرجح أنها لن تقبل بالابتعاد عن السلطة، بل بمجرد الخضوع للقانون، من دون إغراق اللبنانيين بمزيد من الفقر والجوع والدماء.
الوعي الخرافي، وما فعل «الخبير الاقتصادي» بأقصوصته عن فخر الدين عينة صغيرة عنه، وأحد الأسلحة التي تتمسك الفئة الحاكمة بتعميمها وتغذيتها، وابتداع الأكاذيب الضرورية لتعميق انقسام اللبنانيين وعجزهم عن نيل مطالبهم، الخبز والكرامة. | |
|