| | التاريخ: آب ٢١, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | "ربيع السودان".. قراءة سياسية مقارنة - عادل يازجي | في أيّ قراءة لـ "ربيع السودان" لا بد أن نتفاءل. وإذا كان التفاؤل مشوباً بقليل من الحذر، فلأن المنافذ لدواخله لا تبدو محكمة الإغلاق طالما أن معالم الغربلة السياسية عسكرياً ومدنياً لم تتضح بعد، ولم تظهر أدوات حماية الذات من القوى المتطرفة المتضررة التي حكمت مع الرئيس المخلوع عمر البشير، أو حكم هو في ظلّها طوال 30 عاماً، فإرادة التغيير لا تحميها البندقية وحدها، إذا نامت الجماهير ملء جفونها عن شواردها؟
ما حدث في السودان "ربيع عربي" غير جديد، لكنه مختلفٌ عن ربيع أشقائه في ليبيا وسورية واليمن، مؤتلفٌ إلى حدٍّ كبير مع "ربيع" تونس، منسجمٌ مع "الربيع" المصري في شهره الأول (عام 2011)، ويمكن التفاؤل بتفرُّده عن "ربيع" الدول الأخرى، في حال نجاح المرحلة الانتقالية.
"ربيع السودان" خلق فوضى مُتقنة لترتيب أوراقه السياسية وتأهيلها لمجابهة المُصادَرات، إذ ظهرت في المشهد أثناء خلع البشير قوّتان، كما في "ربيع" الأشقاء الآخرين: قوة الحشد المُطالِبِ بالتغيير وخلع الديكتاتور، وقوّة العسكر التي بادرت إلى خلعه وتربعت على كرسي القرار مكانه، ليس تماماً كما جرى في مصر، حيث اكتفت الجماهير بخلع مبارك وانسحبت من الميدان.
جماهير السودان لم تنسحب بمجرّد خلع البشير، وظهرت علامات عدم الرضا عن اُسلوب المجلس العسكري في حسم الموقف، إذ لاحت عليه آنذاك - كما تبدّى لنا - بوادر التمسك بالسلطة بعد البتِّ بمصير الرئيس المخلوع خلف الكواليس العسكرية. ربما توجّست قوى الثورة من تكرار السيناريو الليبي الذي تجلى بوقوف الجيش مع القذافي يطارد المتظاهرين (زنقة زنقة)، أو المشهد السوري بوقوف الجيش عملياً إلى جانب النظام، وتمسّكه بعدم رحيله أو تغييره، وقد حقق ما أراد واقعياً!
في المشهد السوداني، ظهرت بعد خلع البشير قوتان متقابلتان، متنافستان، تحوّلتا للحوار قبل الدخول في صراع يؤدي بهما إلى اللاعودة، ثم توصّلتا إلى الإعلان الدستوري الذي أنجز وحدة اندماجية بين الطرفين باسم "المجلس السيادي"، أي الحاكم المدني - العسكريَ للمرحلة الانتقالية، التي تقود الى حياة ديموقراطية، نصّ عليها الإعلان الدستوري، ما يوحي بوجود توجّهٍ إلى حكمٍ مدنيٍ بمشاركة الجيش، وربما العكس، أي حكم عسكري بمشاركة القوى السياسية المدنية. هذا ما يوحي به اقتسام سلطة القرار السيادي مناصفة بين الجيش وقادة "قوى الحرية والتغيير"، وفيه وعيٌ لطمأنة كل طرف تجاه الآخر، بما لا يترك الحبل على غاربه لأيٍّ من الطرفين، لكنه يجعل من الجيش قوة سياسية تعادل في وزنها مجمل القوى السياسية المدنية، وليس مجرد مؤسسة مهمتها عسكرية محددة فقط بالدفاع عن الوطن.
على كل حال، هذه مرحلة انتقالية يُؤملُ منها أن تقود سياسياً الركب المختلط المندمج إلى حياة ديموقراطية تبدد الهواجس.
في قراءة المشهد السوداني لا نقوِّمُ اعوحاجَ طرفٍ، ولا نشكك في استقامة أيّ طرفٍ، فالرؤى التفاوضية ما تزال قيد التداول داخلياً وخارجياً، بحثاً عن نقطةِ تلاقٍ وِفاقية لسلام يعم أقاليم السودان كلها، لاسيما تلك التي لم تُلقِ السلاح، وهي تنتظر، وتتأمّل، وتفاوض. من هنا، فإن قراءتنا لـ "ربيع السودان" و"ربيع" الآخرين، تجعل الحذر ملازماً للتفاؤل.
استطاع المجلس العسكري بعد خلعه البشير ضبط إيقاع الغضب الجماهيري، والحدّ من الشطط بثوريته، وحمايته من القوى المتضررة، فيما تمكن الطرف المدني الثائر بعدم توقفه عن التظاهر، من ممارسة ضغط فعّال على المجلس العسكري، خفّف من غلواء شهيته للتمسّك بكرسي السلطة. لينتج ذلك ما يمكن اعتباره براءة اختراع في العالم الثالث، مجلس سيادي مدني عسكري بمرتبة رئيس للجمهورية!
عملياً، استطاعت فوضى "ربيع السودان" أن تبدع كشقيقتها التونسية، بخلاف شقيقاتها في سورية وليبيا واليمن. ومجلسها السيادي هو اختراع سياسي وطني إفريقي توفيقي جديد، لم تكن تونس في حاجة إليه، ولم يخطر في بال الليبيين عندما استضافوا الـ"دواعش" بين جنباتهم، إلا أنه ربما يلائم خصوصية اليمن لو اقتصرت المشكلة على طرفي الصراع (شرعية/انقلاب)، لكن القرار اليمني يشوبه تلخبط عربياً وإقليمياً ودولياً واستقرّ خارج حدوده. أما في سورية، فتسعى روسيا جاهدة إلى شقَّ طريق روسي - سوري غير إيراني، وبمساندة من النظام، يقود الى ما يشبه المآل السوداني، باعتباره نموذجاً جاهزاً للتسويات عندما يُرادُ لها النجاح، إذ يحيل إلى حكم مدنيٍ مطعّمٍ عسكرياً، أو حُكمٍ عسكري مُطعّمٍ مدنياً، وكلاهما صالح، كأضعف الايمان، لمشروع التسوية في مناطق الصراع الميداني والسياسي، باعتباره يغُضُّ الطرف عن الامتيازات التي لا مفرَّ منها للقوة المسيطرة.
ظواهر المشهد السوداني تدل على أن "قوى الحرية والتغيير" تدرك صعوبة الانفراد بغربلة الوطن من التطرف "الإخونجي"، ويُسجَّلُ لها توجّهها للتفاوض مع القوى السودانية الأخرى. أمّا الجانب العسكري، فهو الأحوج إلى غربلة نفسه من فساد "إخونجية" البشير قبل أن تلملم شواردها بمؤازرة تركيا وقطر. أما إيران، فلن تبخل بالمؤازرة على الطريقة اليمنية، وقد تتصاعد وتائر التآزر، لأنّ صناعة "الدواعش" لم تَعُدْ حِكْراً على فقهاء تركيا وإيران، بل يمارسها معظم فقهاء واشنطن وموسكو و"الأنظمة الوطنية" التي تستلذُ بصنع عدوٍّ لها ومحاربته لذرّ الرماد في عيون المجتمع الدولي. ولعل الأخطر في المرحلة المقبلة، هو اقتسام الكعكة السياسية، في ظلّ حرب المُصادَرات بين الأطراف الخارجية، كما حدث ويحدث الآن في سورية، لابل في معظم دول ما يسمى "الربيع العربي"، ما سبق منها وما قد يلحق بها. فالجزائر لم تصل بعد إلى برّ الأمان، على رغم أن حراكها الجماهيري واع ويضغط، لكن حرب المصادرات فيها يصعب أن تستمر محلّية بين القوى السياسية الوطنية، ولن تُستثنى من الدعم الخارجي المتأهّب، فشوارد التطرف لم تُلقِ السلاح هناك. بالمحصّلة لم تكن فوضى "ربيع السودان" عقيمة كشقيقاتها في سورية وليبيا واليمن، بل خصبة ولاّدة، ووليدها قد يُحارَبُ في مهده بمنتهى الشراسة سياسياً، أو بطريقة "الدواعش" المُبْتَكَرة، وهذا لا يجهله سدنةُ المجلس السيادي.
* كاتب سوري | |
|