التاريخ: آب ١٧, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الحياة
عن الشرخ في حياة السوريين - هيفاء بيطار
بعد ثماني سنوات من الثورة السورية والجحيم السوري، بدأت معظم الأطراف تتحدث عن إعادة إعمار سورية، فيما لا أحد يتحدث على محمل الجد والمسؤولية عن نفسية المواطن السوري وكيف يُمكن ترميمها نتيجة الأهوال والصدمات التي تعرض لها طيلة تلك السنوات.

وإذا أخذنا اللاذقية كنموذج، نلاحظ هول الشرخ في نفوس السوريين، ذلك أن هذه المدينة، التي نزح إليها نحو مليوني سوري معظمهم من أهالي حلب وريفها ومن مدن أخرى تشكّل عينة من سورية الواقعة تحت سيطرة النظام، إذ نلاحظ فيها شرخاً هائلاً في طريقة تفكير السوريين وسلوكهم. فبعض سكان اللاذقية يرفضون وجود أهالي حلب ويقولون بالتعبير العامي: "جاؤوا ليأكلوا لقمتنا"، أي لينافسوهم في أعمالهم ومن المعروف أن الحلبيين عريقون في الصناعة والتجارة، علماً أن الكثير من التجار الحلبيين قاموا بإنشاء معامل وفتح محال في اللاذقية، وحققوا نجاحات كبيرة وأحدثوا نهضة اقتصادية في المدينة. وفي المقابل، رحب القسم الآخر من سكان اللاذقية بوجود الحلبيين لأنهم أنعشوا الاقتصاد في مدينة الكسالى (اللاذقية).

المؤلم، بل الخطير فعلاً، هو التباين الكبير في طريقة تفكير السوريين، إذ تجد بين أفراد الأسرة الواحدة منطقاً مختلفاً وتفسيراً خاصاً لكل ما يحدث في سورية. وكم حصلت قطيعة وكراهية بين الإخوة وبين الأزواج أيضاً بسبب التباين الشديد في فهم ما يحصل على الأرض السورية وتفسيره. والأمثلة على ذلك كثيرة. فحين حصلت مجزرة الحولة المروعة على سبيل المثال، والتي مات فيها أكثر من خمسين طفلاً، كتب كثيرون على صفحتهم على "فيس بوك" أو تحدثوا جهاراً إلى المقربين منهم، قائلين إنهم يؤيدون تلك المجزرة وبأن هؤلاء الأطفال سيكونون إرهابيين كأهاليهم حين يكبرون!

هنا، انتفى الحس الإنساني تماماً. وأصبحت الأكثرية تفكر بغرائزها. وحين تم خطف عدد من راهبات دير معلولا من قبل تنظيم "داعش" الإرهابي ثم تم تحريرهن وإطلاق سراحهن، تحدثت الراهبات بصدق وقلن إنهن لم يتعرضن لسوء المعاملة ولا للاغتصاب! حينها، جن جنون البعض وخاصة الموالين للنظام، والكثيرين منهم قالوا أن الراهبات "ساقطات وكاذبات وعاهرات" لأنهن لم يقلن بأنهن تعرضن للأذى وسوء المعاملة من قبل الخاطفين، فيما اعتبر البعض الآخر أن تصريحاتهن ناجمة عن خوفهن من الخاطفين.

الأخطر من كل ذلك، هو الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، والغلاء الفاحش لمواد أساسية كحليب الأطفال والأدوية وغيرها. ولولا مساعدات الجمعيات الخيرية السخية وخاصة "جمعية أسرة الإخاء" و"جمعية موزاييك" (التي فتحت مدرسة لأبناء النازحين خاصة الأطفال اليتامى) لمات الكثير من الأطفال من الجوع.

ولا بد من ذكر تجربة فريدة رائعة لشاب في الأربعين من عمره، ابن أسرة عريقة وثرية وكان والده (رحمه الله) علماً من أعلام الموسيقى، أخذ على عاتقه الاهتمام بأطفال الشوارع المتسولين (وما أكثرهم) وآوى إلى بيته أكثر من ثلاثين طفلاً منهم وأرسلهم إلى المدارس وتحمل كل مصاريفهم من كسوة وطبابة ولوازم مدرسية، وذلك بعلم أهاليهم الذين رفضوا بشراسة ألا يمارس أولادهم التسول! كان الشاب المذكور، فاعل الخير، يعطي الأهالي المال حتى يسمحوا لأولادهم الذهاب إلى المدرسة، نتيجة إيمانه بالمثل الإنسانية العليا واعتقاده بإمكان تطبيقها. وفعلاً، حقق الأطفال الذين آواهم في منزله تقدماً في الدراسة. لكن لم تنقض فترة شهرين، حتى اقتحم رجال الأمن منزله وساقوه إلى السجن، حيث أنزلوه إلى قبو التعذيب وانهالوا عليه ضرباً وحشياً مُروعاً إلى أن فقد الوعي. وحين أوكل شقيقه محامياً، اعترض المحامي بشدة على تعذيب الشاب بتلك الطريقة قبل أن يُقدم للمحاكمة. كان القاضي يصغي إلى المحامي مبتسماً وكأنه يستمع إلى نكته، ثم خاطبه قائلاً: "بسيطة يا عزيزي ما هي إلا حفلة استقبال"! هذا لأن حفلات الاستقبال في سورية تكون في أقبية الأمن وفي إشباع المشتبه به بالضرب الوحشي! أما الحجة التي تم تعذيب الشاب وسجنه بسببها، فكانت أنه "يتاجر بهؤلاء الأطفال ويأخذ المال الذي يجمعونه من التسول"! وهذا غير صحيح طبعاً. تقدم بتلك الشكوى أحد الأطفال الذين كان يرعاهم الشاب المسكين، مدفوعاً بأهله السفلة الذين صدق فيهم المثل القائل: "خيراً لا تعمل شراً لا تلقى". ولعل أهل هذا الطفل الذي يعتبر ضحية بدوره، طمعوا بمبلغ كبير من المال، اعتقدوا أنهم سيكسبونه في حال اشتكوا على فاعل الخير المتكفل بمصاريف ابنهم والذي يعطيهم المال ليسمحوا للطفل بالذهاب إلى المدرسة!

المروع في سورية، أن لا قيمة لكرامة الإنسان، إذ ينهال رجال الأمن ضرباً وحشياً على أي مشتبه به، حتى لو لم تثبت عليه أي تهمة! ولا ينتظرون حضور محاميه للدفاع عنه بل يصرون على "حفلة الاستقبال"! علماً أنه وجهت إلى ذلك الشاب تهمة إنشاء ما يُشبه الجمعية الخيرية من دون موافقة نظامية من الدولة، لكن كل ذلك لا يبرر التعذيب الوحشي له وللكثيرين من الشباب أمثاله، الذين يموتون تحت التعذيب وغالباً ما يقول التقرير الطبي بأن الواحد منهم مات نتيجة سكته قلبية!

المفارقة أن الطفل الذي استغله أهله وأجبروه أن يُقدم شهادة زائفة في حق الشاب الذي احتضنه، عاد وتراجع عن أقواله واعترف بأنه قال ما قاله تحت التهديد! هذه الحادثة انعكست على كل مجتمع اللاذقية ترويعاً وذعراً وشللاً. فالمواطن السوري، يشعر بأنه مشلول، وبات يخاف ليس من قريبه وصديقه فقط، بل حتى من ذاته، من حقيقة أفكاره، يخاف قول الحق (لأن الحق يحررنا) ويعيش لاهثاً وراء رغيف الخبز ليطعم أولاده منتظراً ساعات طويلة أمام الأفران الحكومية. حتى الخبز في سورية صار رديئاً جداً، إذ بسبب النقص الشديد في مادة المازوت، ما عاد الخبازون ينتظرون حتى ينضج الرغيف تماماً، بل يخرجونه من الفرن كيفما اتفق. أما محال الألبسة والأحذية المستعملة فعددها بات بالآلاف، ومعظم الشعب السوري يشتري منها، بل يبحث عن أرخصها ثمناً، لأن ثمة محال ألبسة مستعملة تفوق قيمة بضاعتها قدرة المواطن السوري على الشراء!

على المقلب الآخر، نجد فئة من أثرياء الحرب الذين يصرفون بالملايين على حفلاتهم ولباسهم ومناسباتهم الخاصة ولا أحد يحاسبهم ويسألهم من أين لكم كل تلك الثروة؟

إلى ذلك، لا يجب إغفال الارتفاع الكبير في نسبة الإصابة بالسرطان بين سكان اللاذقية، وذلك بسبب الدخان المتصاعد من مكب القمامة والذي يشكل غيمة تغطي سماء المدينة ويستنشقها السكان. وعلى رغم الشكاوى الكثيرة قدمها المواطنون، إلا أنهم لم يتلقوا سوى الوعود. والغريب أن المسؤولين وأولادهم يتنشقون الأبخرة السامة الناتجة عن حرق القمامة! ترى ألا يخافون على صحتهم وصحة أولادهم؟ يضاف إلى كل ذلك، مشهد مستوعبات القمامة الطافحة بمحتوياتها وغير المبطنة بأكياس والتي تنتشر في الشوارع والأزقة، ما يشكل مرتعاً للجرذان وسبباً لانتشار الأمراض والجراثيم.

بعد ثماني سنوات من الثورة السورية، لم يتغير شيء، تلك الثورة اليتيمة التي مات فيها الآلاف ونزح ثلث الشعب السوري بنتيجتها. وبقي الخوف السوري الذي يُجمد الدم في العروق هو الأبقى والأقوى. فهل أن إعادة إعمار الحجر هي الأهم؟ أم ترميم الجراح النفسية العميقة التي يعانيها المواطن السوري الذي يعيش ما وصف بأنه مأساة القرن؟

* كاتبة وطبيبة سورية