| | التاريخ: آب ٨, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | المطران ميشال عون يعيدنا إلى العام 1277 - أنطوان قربان | في 7 آذار 1277، أصدر أسقف باريس، إتيان تمبييه، السِلاّبوس (مجموعة الأضاليل) الشهير الذي يشجب اقتراحات سيغر دو برابان وأساتذة آخرين في جامعة باريس. ولا تزال هذه الخطوة تثير حتى يومنا هذا سجالاً بشأن العلاقات بين الإيمان والعقل، والدين والعلوم، والكنيسة والحريات، والله والإنسان. ولكن أبعد من هذه الفئات، يُطرَح سؤال مقلق: هل ثمة سلطة مسؤولة عن الحقيقة؟ لحسن الحظ، كانت للسِلاّبوس الذي وضعه إتيان تمبييه نتائج معاكسة للهدف المتوخّى منه الذي تمثّلَ في "حماية" الشباب الجامعي المسيحي من تأثير الحريات الجريئة لمذهب العقلانية عند العرب (ابن رشد على وجه الخصوص). وقد لقيت الطروحات المحظورة اهتماماً أكبر ابتداء من الأزمة الجامعية الكبرى في القرن الرابع عشر، وساهمت إلى درجة كبيرة في علمنة المسيحية التي تُوِّجت بعصر الأنوار في القرن الثامن عشر وظهور "الشخص المستقل ذاتياً" في زمن الحداثة.
ولكن الأنا لدى هذا "الشخص المستقل ذاتياً" كانت في علاقة جدلية دائمة ومباشرة مع الأنا الإلهية. لقد دفعت البشرية غالياً جداً ثمن مأزق التفاؤلية التاريخية وحركتها الإنسانية الملحِدة التي تُركّز حصراً على الإنسان باعتباره حقيقة الكون المركزية، وهذا الثمن الباهظ كان بسبب تأليه المجتمع الذي ساهمت هذه التفاؤلية في توليده.
في 8 كانون الأول 1864، نشر البابا بيوس التاسع، استكمالاً لرسالته العامة Quanta Cura، السِلاّبوس الشهير والمتشدّد الذي وجّه فيه رأس السلطة البابوية، بطريقة جازمة لا رجوع فيها، إدانة إلى 80 مقترحاً عن الحداثة، منها المذهب الطبيعي، ومذهب العقلانية المطلق والمعتدل، والاشتراكية، والشيوعية، والليبرالية الحديثة، والمجتمعات السرّية، والمجتمعات الإكليريكية-الليبرالية، إلخ. وقد عمد خلفه ليون الثالث عشر إلى التخفيف قليلاً من لهجة السلاّبوس من خلال عرض عقيدة اجتماعية للكنيسة الكاثوليكية، بفضل رسالته العامة Rerum Novarum (الشؤون الحديثة) التي صدرت في 15 أيار 1891. ومنذ عام 1904، كان ماكس ويبر قد أدرك تماماً رهانات هذه العملية الطويلة التي قادت، وفقاً له، إلى ما أسماه Entzauberung der Welt أي "فكُّ السحر عن العالم".
في 22 تموز 2019، أصدر راعي أبرشية جبيل المارونية، المطران ميشال عون، مدعوماً من المركز الكاثوليكي للإعلام بإدارة الأب عبدو أبو كسم، بياناً أقل ما يُقال عنه إنه مفاجئ لأنه يُعيدنا، لا إلى سلاّبوس البابا بيوس التاسع بل إلى سلاّبوس إتيان تمبييه. ففي عام 1277، وضع أسقف باريس العالَم الجامعي والمثقّفين عموماً أمام أمر واقع يتمثّل في الرقابة التي تدّعي الكنيسة ممارستها في المساحة العامة (غير العلمانية) بصفتها حارسة الحقائق المعلَنة، وتالياً، باسم دورها الحصري في موقع السلطة المسؤولة عن الحقيقة. وفي 22 تموز الماضي، على إثر البلبلة التي أُثيرَت حول العرض الذي كانت ستؤدّيه فرقة "مشروع ليلى" في التاسع من آب، طلب راعي أبرشية جبيل المارونية منع العرض مشترطاً من أجل السماح بإقامته أن تُقدّم الفرقة اعتذاراً علنياً إلى الكنيسة (أي كنيسة؟ ما هي سلطتها القضائية؟) وإلى الشعب المسيحي (أي مذهب؟ ما هي سلطته القضائية؟)
لا جدوى من التذكير بالأحداث التي رافقت هذه الإشكالية وبدأت مع "نداء إلى أبناء الأمة السريانية المارونية والشعب المسيحي عامة في لبنان" أطلقه نشطاء يمينيون متشددون حذّروا فيه من الفرقة الموسيقية المذكورة واتهموا أعضاءها بأنهم مثليون جنسياً يتبعون بدعاً شيطانية. باختصار، تحوّلت حفلة لموسيقى الروك حفلة ساحرات صاخبة ومعربدة كما تخيّلتها محاكم التفتيش في القرون الوسطى. وهكذا انصرفت مخيّلة المسيحيين المتزمّتين في لبنان إلى خوض معركة دونكيشوتية ضد شياطين ذوي ميول مثلية.
تقود الخطوة التي أقدم عليها المطران ميشال عون إلى طرح أسئلة عدّة. إذا تبيّن أن بعض كلمات الأغاني تحمل تجديفاً ضد الديانة المسيحية، ليس بإمكان الأسقف الماروني، منفرداً، أن يتكلّم ويتصرّف باسم كنيسة يسوع المسيح مجتمعةً في بيبلوس. فهذه المدينة تابعة أيضاً لسلطة أسقفَين آخرين: متروبوليت جبيل والبترون وتوابعهما للروم الأرثوذكس، ومطران بيروت وجبيل وتوابعهما للروم الكاثوليك. يحق للمطران الماروني أن يفرض عقوبات تأديبية فقط على أعضاء الفرقة التابعين للسلطة الكنسية المارونية في حال وُجِدوا. ولكن لا يحق له أن "يمنع" نشاطاً في المساحة العامة اللبنانية، ولا أن يطلب اعتذاراً علنياً من الفرقة. تتضمن القوانين اللبنانية أحكاماً عن التجديف أو التدنيس؛ والقضاء المدني هو الجهة التي يجب الاحتكام إليها لفرض تطبيقها.
أبعد من هذه التفاصيل المحلية الصغيرة، تندرج هذه المسألة في سياق لحظة كبرى مقلقة، إنها لحظة "ربط العالَم بالسحر من جديد" (réenchantement du monde). كلا، ليس المقصود عودة الدين كما اعتقد أندريه مالرو، ولا مواجهة جبّارة بين الإيمان والعقل. إنه ببساطة صراع جبابرة تخوضه المتحدات الطائفية وكتلها الشعبية التي تعاني من مرض التقوقع حول الهوية. وهذا ما لمسناه منذ فترة وجيزة في قضية النائبة السنّية رولا الطبش التي أُرغِمت على تقديم اعتذارها أمام مفتي الجمهورية بعدما تقدّمت، في خطوة غير متروّية، لتناول القربان في قداس كانت تشارك فيه.
يُعيدنا تصرّف المطران ميشال عون لا إلى سِلاّبوس إتيان تمبييه، بل إلى حقبة سابقة حيث لم يكن بإمكان أحد أن يفكّر من تلقاء نفسه. يسير القرن الحادي والعشرون، كما الأشخاص الذين يسيرون في نومهم، "نحو رقابة أسوأ من جميع أشكال الرقابة في العصور الوسطى"، وفق ما جاء في التحذير الذي أطلقه ألان دو ليبيرا الذي وضع الجامعة أمام مسؤولياتها في مواجهة الرقابة، مذكّراً إياها بوجوب حماية الحرم الجامعي، لا بل تحويله حصناً منيعاً تسقط عند أبوابه الانقباضات الفئوية الضيّقة و"مباهج إنزال اللعنة والحُرم".
أستاذ في الجامعة اليسوعية | |
|