التاريخ: آب ٣, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
رسالة لبنان في زمن العنصريّة
الأب صلاح أبوجوده اليسوعي
من مآسي الخطاب العنصريّ المرتجل أو المدروس، في مختلف تجلّياته، أنّه ينطوي على عناصر تثير حالة عداء وكراهية بين مجموعات إنسانيّة معيّنة داخل المجتمع الواحد، يمكن أن تتفاقم وتؤدّي إلى اندلاع العنف والتسبّب بالظلم، بل وحتّى الاضطهاد، ولا سيّما إذا تطرّف أصحاب هذا الخطاب - عند عمدٍ أو عن جهل- في تصريحاتهم، بحيث يقضون على كلّ شعور إنسانيّ يترك في نفوس الغالبيّة عادةً مكانًا للرحمة والتضامن والثقة والعقلانيّة، في التعامل مع المجموعات المختلفة عرقيًّا أو قوميًّا أو دينيًّا أو ثقافيًّا في المجتمع. فتسود إذ ذاك تجاه تلك المجموعات، اللاعقلانيّة والتصرّفات الغرائزيّة العدائيّة التي تتغذّى من خبرات الماضي الأليمة، وصورها المنمّطة وأحكامها المسبقة وصدماتها النفسيّة، وأزمات الحاضر الجسيمة، وقد اتّخذت - في الخطاب العنصريّ- صفة قضايا وطنيّة سامية وطارئة، تُربَط بالماضي ورواسبه تبعًا لحاجات توظيفها السياسيّ.

ومن بين تلك المجموعات المختلفة التي تشغل مكانةً بارزة في الخطاب العنصريّ حاليًّا، في الشرق والغرب على السواء، مجموعات اللاجئين. وبكلّ تأكيد، لا يمكن نكران النتائج السلبيّة الناتجة من تلك المجموعات في حقول معيّنة، مثل الأمن والاقتصاد. ولكن من الثابت أنّ معالجة تلك التحدّيات لا يمكن أن تتمّ بواسطة خطاب عنصريّ يبسّط الحلول إلى حدّ السذاجة، إذ يحصر الأسباب في فئة من الناس، ويتسبّب في انحدار مستوى الخطاب السياسيّ، الأمر الذي يشجّع على تصرّفات عنصريّة داخل المجتمع. وتبيّن خبرات الغرب الراهنة، بدءًا من سياسة إدارة الرئيس ترامب وصولاً إلى سياسات الأحزاب الشعبويّة الحاكمة في بعض بلدان أوروبّا، صحّة هذا الاستنتاج. فنهج هذه القيادات الذي يكشف عن أصوله العنصريّة تدريجيًّا، يُظهر بتزايد، من جهة، إفلاسه الأخلاقيّ والسياسيّ؛ ومن جهة ثانية، تأثيره الشديد في البيئات الاجتماعيّة المستعدّة، لأسباب تاريخيّة وراهنة كثيرة، لاعتناق النزعة العنصريّة وترجمتها في أعمال عدائيّة. فكم بالحريّ تكون البيئة اللبنانيّة الطائفيّة المشبعة بالخوف من الآخر "القريب" و"البعيد"، عرضة للانجرار في متاهات العنصريّة!

ممّا لا شكّ فيه أنّ عدد اللاجئين السوريّين في لبنان الذين يُقارب عددهم المليون نسمة بحسب مفوضيّة الأمم المتّحدة العليا لشؤون اللاجئين، و1.5 مليون نسمة بحسب تقديرات الحكومة اللبنانيّة، ينعكس سلبًا على الوضع الاقتصاديّ المتردّي، ويُثير مخاوف ديموغرافيّة وطائفيّة الطابع، إذ قد يُقرن مع مرور الوقت بمخاطر التوطين والتجنيس. ولكن، في المقابل، لا يمكن معالجة هذا التحدّي بخطاب عنصريّ شعاره إعادة فوريّة لهؤلاء اللاجئين إلى بلادهم مدخلاً لخلاص البلاد. ففي ما خصّ الأزمة الاقتصاديّة، فإنّ أسبابها لا تُقتصر على مشكلة اللاجئين؛ فقد ساهم في تفاقمها اندلاع الحرب في سوريا العام 2011، وتراجع ودائع الخليجيّين، وبالطبع مسألة الفساد المستشري، وغياب الرؤية الاقتصاديّة والسياسة الضريبيّة السليمة والعادلة، وإبعاد الاختصاصيّين وأصحاب الكفايات عن اتّخاذ القرارات المصيريّة. وكذلك الأمر في ما خصّ مخاطر التجنيس والتوطين، فمعالجتها لا تتمّ بالخطاب العنصريّ والانفعال والذعر. فهذه المواقف تزيد من تعقيد المشكلة، وتحول دون إمكانيّة التفاهم على تفسير اتّفاقيّات الأمم المتّحدة الخاصّة باللاجئين وتطبيقها، بل ودون تطبيق القوانين المحليّة أو سنّ قوانين ملائمة وموضوعيّة إزاء المسألة، نظرًا إلى ما تثيره من اعتراضات داخليّة تتّخذ منحى طائفيًّا في بعض الأحيان، وردود فعل سلبيّة دوليّة.

فقد تعالت أصواتٌ تدين بشدّة المواقف التي تُثير الكراهية إزاء اللاجئين السوريّين، وتؤسِّس لعداوة بين الشعبَين لن يُسرّ بها أحد؛ وأخرى ترفض إعادة هؤلاء اللاجئين بالقوّة إلى بلادهم، ليس لأنّ ذلك يُخالف القوانين الدوليّة فحسب، بل بسبب ما قد يتعرّضون إليه من قمع من قبل النظام. في حين يرى بعضهم ضرورة أن يمارس المجتمع الدوليّ ضغوطًا على لبنان لمنعه من القيام بأيّ خطوة باتّجاه إكراه اللاجئين على العودة. ويزداد المشهد تعقيدًا، عندما يعتبر بعض المراقبين أنّ اللاجئين ورقة يستخدمها النظام السوريّ وحلفاؤه المحليّون لفرض التطبيع الرسميّ بين البلدَين، أو توظّفها إدارة الرئيس الأميركيّ ترامب لتمرير صفقة القرن.

وخلاصة القول إنّ مشكلة اللاجئين السوريّين شائكة ولا حلّ سحريّ لها، والخطاب العنصريّ لن يساهم في حلّها، بل يضاعف من تعقيداتها. أمّا مدخل المعالجة السليمة فيفترض، قبل كلّ شيء، إقصاء الخطاب العنصريّ والتوظيف السياسيّ، وتحاشي الارتجال في طرح الحلول، وخلق فرصة لفهم الموضوع نظريًّا بطريقة صحيحة، تؤول، في مرحلة لاحقة، إلى تفسير القوانين الدوليّة الخاصّة باللاجئين تفسيرًا ملائمًا، واتّخاذ الإجراءات التي تخدم الطرفين، ونشر ثقافة جديدة في الأوساط الشعبيّة لمقاربة المسألة.

تقوم المقاربة النظريّة، في الواقع، على السعي لتظهير صيغٍ عمليّة لإشكاليّة حيويّة، هي علاقة البُعد الإنسانيّ أو الشعور الإنسانيّ الصرف، بخير الشعب ومصلحته. ولا بدّ من العودة، في هذا السياق، إلى حقوق الإنسان لأنّها ضمانة حماية الشعور الإنسانيّ المذكور، والعامل الذي يفرض هذه الإشكاليّة الحيويّة على علاقات الدول بعضها ببعض، وعلاقاتها بالأوضاع الاستثنائيّة، ومصدر قوانين اللاجئين الأساسيّ. ومنطلق هذه الحقوق "سموّ الإنسان وكرامته"، إذ هو كائن أسمى من كلّ دولة وعرق وقوميّة وثقافة ومعتقد دينيّ أو فلسفيّ؛ وصاحب كرامة فريدة، منها تنبع حقوقه الأساسيّة في الحياة الكريمة والحريّة والأمن والعمل، واللائحة تطول. في الغرب، يُثير موضوع سموّ الإنسان وكرامته نقاشًا بشأن مصدرهما: هل هو الإنسان بحد ذاته أم هو خالقه الذي يُلبسه السموّ والكرامة؟ لا تُطرح هذه المسألة في إطارنا الشرقيّ عمومًا واللبنانيّ خصوصًا، إذ تبقى النظرة إلى الإنسان متأثّرة بالخلفيّة الدينيّة. فالتقليد اليهوديّ-المسيحيّ كما التقليد الإسلاميّ، يقولان بخلق الإنسان "على صورة الله ومثاله". وبالتالي، هو الله مصدر كرامة الإنسان وسمّوه. غير أنّ السؤال الذي يُطرح يتعلّق بقدرة الدّين، أيًّا كان، على دفاعه عن هذه الحقيقة، وبثّها بطريقة تؤثِّر في تفكير الناس، في ظلّ ظروف يبدو فيه الدّين مقموعًا بالحالة الطائفيّة أو خاضعًا للتوظيف السياسيّ. ولكن، ألا تمثّل مشكلة اللاجئين فرصة ليتحرّر الدّين، ويستعيد موقعه الطبيعيّ في الدفاع عن "الإنسان"؟

وفي المقابل، بقدر ما أنّ سلطة الدولة مدعوّة إلى خدمة خير شعبها، فإنّها تحتاج إلى تطوير مفهومٍ للخير العامّ والمصلحة الوطنيّة يتجاوزان الحسابات الطائفيّة والشخصيّة الضيّقة، ويراعيان حقوق اللاجئين المستمدّة من حقوق الإنسان. وفي الواقع، من شأن هذه السياسة أن تؤدّي إلى خير أسمى، إذ إنّها تُرسي أسس صداقة حقيقيّة بين الشعبَين اللبنانيّ والسوريّ، تتجاوز الخبرات السلبيّة التي طبعت علاقة البلدَين بعضهما ببعض طوال عقود، كما تميّز بين الشعب والنظام القائم، ذلك أنّ أساسها هو "الإنسان" قبل كلّ شيء.

في السابق، لاقى قول البابا يوحنّا بولس الثاني إنّ "لبنان هو أكثر من وطن، أكثر من بلد، إنّه رسالة"، ترحيبًا من مختلف مكوّنات المجتمع اللبنانيّ وقياداتها. ويبدو الظرف مؤاتيًا الآن ليفكّر اللبنانيّون مليًّا في هذا القول الذي يفتح باب رجاء في هذه الأوضاع القاتمة. ويمكن اللبنانيّين الكاثوليك، وقد أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة قداسة البابا المذكور، أن يطلبوا شفاعته، لكي يزرع الله في ضمائر قياداتهم حقيقة أنّ لبنان رسالة، وليس مجرّد بلد.

أستاذ في جامعة القديس يوسف