عمان- من عمر عساف:
قبل اثني عشر عاما تعهد الملك الراحل الحسين بن طلال مراجعة شاملة لجميع القضايا والملفات الداخلية والخارجية، وإحداث التغيير المطلوب، بما في ذلك التعامل مع الشباب، لكنه غادر إلى مستشفى مايو كلينيك ليدخل محنة الصراع مع المرض. ولدى عودته قبل الأخيرة إلى البلاد، كرر تعهده بإحداث التغيير، غير أن "المرض الخبيث" حال دون ذلك. وبمجيء نجله عبدالله الثاني بن الحسين ملكا قبل 11عاما، لم يكن في حاجة إلى مراجعة لإجراء التغيير، فهذا عهد جديد مختلف قد حلّ، وملك شاب يعرف ما يريده الشباب. وفي خطابه بذكرى يوم الجيش في حزيران الماضي ومرور عقد من حكمه، تعهد مراجعة التجربة والإفادة منها لإجراء التغيير وتصحيح المسار. وكان يفترض البدء بالمراجعة التي بدأت بوضع قانون موقت للانتخاب، غير أن تداخل الأزمات الداخلية وتعقّد الخارجية، أبطأا وتيرتها، وهو كان يأمل أن تكون الانتخابات النيابية الأخيرة مدخلا لإحداث التغيير، الامر الذي لم يحدث.
الهاشميون والأردنيون حرص الملوك الهاشميون على أن تكون لديهم مجسات تمكنهم من معرفة حقيقة نبض الشارع عن قرب، غير منتظرين التقارير الإستخبارية، أو تلك الحكومية المليئة بالزيف وتعظيم المنجزات الـ"دونكيشوتية"، أو حتى الإعلامية المؤتمرة بأوامر الحكومة والأجهزة الامنية، لتمارس دورها في خداع الملك وخيانته بتجميل القبيح وإخفاء العيوب والنقائص في أداء أجهزة الدولة. الحسين، ومن بعده عبدالله الثاني، كانا يتخفيان وينزلان إلى الشارع ويختلطان بالناس لمعرفة حقيقة ما يجري. وكلاهما كان قريبا جدا من العسكر، ومن البدو والفلاحين، والعجائز، وجميعهم لا يعرفون المداهنة أو الرياء. وهؤلاء كانوا أجهزة استشعار تنبىء بما يجري على الأرض وما يعتمل في الصدور. وكلاهما كان، عندما يرى أن الوقت قد حان، ينحاز إلى الشعب ويطيح بضربة واحدة من كانوا سببا في تعطيل الإنجازات أو تكثيف الاحتقانات، ويستبدلهم بمن يعتقد أنهم مقبولون من الشارع أو القوى السياسية. لذلك لم يعتقد أحد في الأردن، خلافا لما كانت آلة الإعلام الغربي والإسرائيلي تروج له، أن إحداث التغيير يلزمه حمامات دم أو عنف على الطريقة التونسية أو المصرية.
سقف المطالب لم يكن الأردن في السنوات الأخيرة نموذجا في الديموقراطية والانفتاح كما كان يؤمل له، غير أنه لم يكن كذلك نموذجا في الديكتاتورية أو القمع، وهو بين الأنظمة في البلدان المحيطة "الأقل دموية" ولم تنتفِ هذه الصفة عنه (مع استثناء أحداث أيلول 1970 بينه وبين فصائل المقاومة الفلسطينية). لذلك، كانت مطالب الشارع الأردني، الشعبي والسياسي وسطية. وهي تركزت على: تغيير الحكومة (لا النظام) وحل مجلس النواب لتفريطه في منح ثقة غير مسبوقة لحكومة غير شعبية، ولشبهة التزوير، وكذلك الشروع الفوري في تحقيق الإصلاح السياسي، بدءا بقانون انتخاب عصري (حقيقي هذه المرة) وتطوير منظومة التشريعات المرتبطة بالحريات العامة، وعلى رأسها قانون الاجتماعات العامة الذي خرقه الأردنيون طوال الأسابيع الستة الماضية بتظاهراتهم واعتصاماتهم دون أن يحدثوا أذى أو فسادا في الأرض. وكان منتهى سقف هذه المطالب: العودة إلى دستور عام 1952 وشطب التعديلات التي أجريت عليه والتي تمنح الملك سلطات إضافية، أو: ملكية دستورية تفضي إلى حكومة منتخبة على أساس الغالبية البرلمانية. وهذه تعني: تقليص بعض صلاحيات الملك، ولكنها أيضا، من منظور دعاتها، تحصن مؤسسة العرش وتحميها من النقد والانتقاد ولا تحملها وزر الإخفاقات، وتكرسها رمزا للأمة.
وهذه المطالب، أكد الملك في جميع لقاءاته الأخيرة مع فاعليات شعبية ونقابية وسياسية وبرلمانية، إصراره على تنفيذها وانحيازه الكامل لمطالب المحتجين. ولمزيد من تأكيد انحيازه لهذه المطالب أقال حكومة رئيس الوزراء سمير الرفاعي بالسهولة نفسها التي أقال بها والده الراحل عام 1989 حكومة والده زيد الرفاعي وجدّه (سمير الأول) في ستينات القرن الماضي.
وحتى المطالب الإصلاحية الكبرى، وتحديدا الحكومة المنتخبة، لم يبد الملك أي معارضة لها، وهو كلف رئيس الوزراء الجديد معروف البخيت وضع آلية لإجراء حوار وطني يشمل الجميع للاتفاق على قانون انتخاب يكون موضع إجماع. أضف ان القوة السياسية الأبرز في الشارع والأقدر على تحريكه وتنفيسه: "الإسلاميون"، استطاع الملك بلقاء واحد معهم أن يشطب عقدا من انعدام الثقة بينهما، ويؤسس لعلاقة تحالف مبنية على الصراحة والتعاون، ليخرجوا على الناس في اليوم التالي بالتأكيد أن "أمن الأردن واستقراره وحمايته هو فريضة شرعية".
حكومة البخيت على رغم اعتراض كثيرين على الطريقة التقليدية التي جيء فيها بالرئيس البخيت، إلا أن اختيار الملك له كان استجابة أخرى لمطالب بعض المحتجين، وخصوصا المتقاعدين العسكريين، وعدد من الحكماء والمستشارين، وأبرزهم رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري. وهو كذلك لامس نبض الشارع في شرق البلاد، الذي كان المبادر إلى الاحتجاج، باختيار رئيس منه ينتمي إلى الطبقة الوسطى ومعاد لتيار اللبرلة المتهم بتوريط البلاد في ديون كبيرة جدا بلغت نحو 15 بليون دولار، وملفات من الفساد.
وعلى رغم ترداد بعض السياسيين أن "المجرب لا يجرب"، إلا أن الرئيس الجديد استطاع إقناع مختلف القوى السياسية والمجتمعية بقدرته وحكومته (الانتقالية) على اجتياز المرحلة وتنفيذ أوامر الملك ومطالب الشعب، وخصوصا قانون الانتخاب. وهو بدأ فور تشكيله الحكومة بخطوات "شعبية" تدل على نيات حقيقية بالتغيير، ولإثبات أنه يمسك أمور البلد كلها بقوة، أولها: إحالة ملف اتفاق ترخيص الكازينو (المتهمة حكومته السابقة بها) مع شركة أجنبية إلى رئيس هيئة مكافحة الفساد "لدراسة الملف والتحقق وإجراء المقتضى". وكذلك رفع الحظر على المواقع الالكترونية في المؤسسات الحكومية، وتقديم تعديلات على قانون الاجتماعات العامة، وتعهد إنشاء نقابة المعلمين، وأعاد عمال المياومة المفصولين. وجاء اختيار البخيت لطاهر العدوان رئيس تحرير "العرب اليوم" المستقلة، المنافح بقوة عن الحريات الإعلامية ومهنة الصحافة وزيرا لشؤون الإعلام والاتصال "ضربة معلم" ولاقت ارتياحا لدى الإعلام في القطاعين العام والخاص.
غير أن الاعتداءات الأخيرة الجمعة من مجهولين على المشاركين في المسيرة الأسبوعية وسط العاصمة أمام سمع رجال الأمن وبصرهم، هزت صورة البخيت أمام الجميع، وأظهرته بمظهر الضعيف، ووضعته أمام تحدي السيطرة على أجهزة الأمن، وأي لاعبين آخرين داخل أروقة السلطة. وهذا أساء في الوقت عينه إلى صورة الملك، وأظهره بمظهر غير القادر على اختيار الأشخاص المناسبين. وسبق هذه الحادثة، ومنذ تشكيل الحكومة الجديدة التي عبرت المملكة من خلالها بر الأمان، حملة توجه سهام النقد والانتقاد الى الملك مباشرة بصورة فجة، حتى وصل الأمر الى الغمز من قناة زوجته الملكة رانيا. ومع أن الأصوات المنتقدة ظاهرة للجميع، إلا أن تساؤلات تطرح حيال حقيقة من وراءهم وأهدافهم. فهل يتمكن البخيت وحكومته من إجراء تغيير يحقق المطالب الشعبية ويلبي طموحات الملك، أم تكون فترة حكمه مجرد "مضيعة للوقت"؟
|