| | التاريخ: تموز ٢٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الشرق الأوسط | | ولكن... ما الذي بقي للنظام السوري؟ - أكرم البني | أمر بديهي ألا يهتم أهل الحكم بالمشهد الكارثي الذي أوصلوا سوريا إليه، وهم الذين أعلنوا جهاراً استعدادهم لحرق البلد من أجل دوام تسلطهم وفسادهم وامتيازاتهم، والأنكى أن تسمع من بعضهم أن الفتك والتنكيل اللذين مورسا ضد انتفاضة السوريين ليسا كافيين، وكان يفترض أن يكونا أشد هولاً لوأد ما يعدّونها فتنة ومؤامرة في مهدها. لكن، وفي ضوء تكرار ظواهر إذلال النظام السوري وازدرائه من قبل حلفائه، ألا يبدو غريباً ألا تلمس لدى أحد من الجماعة الحاكمة أو من الدائرين في فلكها أي حاجة لإجراء مراجعة نقدية لما صارت إليه أحوالهم كسلطة؛ ماذا تبقى لهم منها، وأين أصبحت تبجحاتهم عن السيادة الوطنية والقرار المستقل، وأي ثمار حصدها إيغالهم المفرط في العنف والفتك والتدمير واستجرار من هبّ ودبّ ليعيث قهراً وفتكاً بالسوريين؟!
إذا كانت المؤسسة العسكرية والأمنية هي الذراع الضاربة للنظام، التي منحته، طيلة عقود، السيطرة والقوة والجبروت، فهي قد تفككت وأنهكت تماماً خلال السنوات الماضية، ليغدو جلياً عجزها في غير مكان عن تحقيق أي تقدم عسكري حاسم، بل صارت أحوالها في الويل وعلى مشارف هزيمة ساحقة لولا مسارعتها لاستجرار التدخل والدعم الخارجيَين؛ الأمر الذي انعكس في عجز آخر عن الحد من نمو ميليشيات منفلتة، كاللجان الشعبية والقوات الرديفة، وفي وقف تغوّل مراكز قوى عسكرية باتت لها الكلمة الفصل في أهم مناطق الصراع، بعيداً عن رأي قادة السلطة وقرارهم، فكيف الحال حين نسمع عن صراع بين روسيا وإيران على ترتيب المؤسسة العسكرية واختيار قادة الأجهزة الأمنية، أو حين يصل الخلاف إلى صراع دموي بالسلاح الحي، بين الفرقة الرابعة الموالية قيادتها للنفوذ الإيراني وبين الفيلق الخامس وقوات سهيل الحسن الموالية للنفوذ الروسي؟ وكيف الحال حين تفرض على النظام فرضاً المصالحات والتسويات مع المعارضة المسلحة، ويقاد مرغماً إلى اجتماعات آستانة، ولتنفيذ ما تقرره مؤتمرات سوتشي، وأيضاً حين يغدو بعض مناطق البلاد حكراً على ميليشيا أو طرف عسكري خارجي استولى عليها من دون أن يسمح للنظام بدخولها، كمنطقة القصير في مدينة حمص مثلاً، التي استولى «حزب الله» عليها وشجع الموالين له على الاستيطان فيها والاستيلاء على بيوتها وأراضيها وحوّلها إلى ما يشبه المعسكر المغلق؟!
صحيح أن الدولة والسلطة هما كيانان متمايزان كلاهما عن الآخر، لكنهما في سوريا أصبحا كياناً واحداً بعد أن التهمت السلطة، خلال العقود الماضية، مؤسسات الدولة كافة؛ الإدارية والخدمية والاقتصادية، وسخّرتها لخدمة أهدافها ومصالحها، من خلال شبكات الفساد والمحسوبية والروابط الطائفية والعائلية، لتغدو هذه المؤسسات أهم مورد للنظام، والتي منحته الفرصة للزعم بأنه الكيان الوحيد الذي يخدم المواطنين، ليس فقط لأنها الموفر الأكبر لفرص العمل والتشغيل في البلاد، وإنما أيضاً لأنها عوّدت الناس على أن تكون المزود الرئيسي بالسلع الأساسية واحتياجاتهم الضرورية.
والحال؛ إذ أفضى العنف المفرط والتدمير العشوائي للمدن والأرياف إلى تعميق أزمة الاقتصاد السوري وإضعاف البنية الإنتاجية إلى حد كبير، وتالياً فرض تخفيضات حادة في ميزانية الحكومة، فهذا يعني أنه لم يبقَ في يد النظام اليوم تلك القدرة والموارد المالية التي كان يرشو بها ملايين العمال والموظفين، أو التي كانت تمكنه من توفير السلع الأساسية كالخبز والأرز والسكر، والاحتياجات الضرورية من الماء والكهرباء والوقود وخدمات النقل والتعليم والرعاية الصحية؛ الأمر الذي جعل غالبية المواطنين يكابدون عوزاً وشظف عيش لم يسبق لهما مثيل، وأنهى، عملياً، ما تسمى إجراءات الدعم التي شكّلت في سوريا أحد مقومات «العقد الاجتماعي الخفي» بين السلطة والمجتمع.
يحلو للنظام السوري أن يروّج أنه خرج منتصراً على خصومه وحسم المواجهة عسكرياً ضد المطالبين برحيله وأعاد السيطرة على الجزء الأكبر من مناطق البلاد المأهولة ومن مدنها الكبرى، لكن اليوم، هو خير من يدرك أنه نجح فقط في إنقاذ ذاته، كسلطة شكلية لا تحل ولا تربط وفقدت كل قدرة على اتخاذ القرار في القضايا المصيرية، وأيضاً خير من يعرف مدى انحسار قاعدته الاجتماعية، التي كان يتغنى ويتباهى بها قبل موجة الربيع العربي، وبأنها ملتفّة حوله وليس لديها أي دافع للثورة ضده كما حدث في تونس ومصر... فها هو قد خسر نفوذه التاريخي على الفصيل الكردي القوي الموالي لحزب العمال الكردستاني، والذي تحالف مع عدوه اللدود واشنطن ونجح في دحر تنظيم «داعش» والتمدد في شمال وشرق البلاد، وصار يفرض شروطاً لإعادة صياغة علاقته مع النظام، يبدو الأخير غير قادر على تنفيذها، بينما تراجعت ثقة الأقليات الدينية به، والتي لطالما ادعى حمايتها، وقد أدركت أن الحضور العسكري الروسي هو الذي أنقذها وليس النظام الذي ابتزها وتلاعب بهمومها ومخاوفها وبقي عاجزاً حتى عن رد القذائف التي كانت تطلقها الجماعات الإسلاموية المسلحة على مناطقها، والأهم أن الروابط بدأت تتفكك بينه وبين الطائفة العلوية التي استمد منها القوة والعصبة، فحين تخسر غالبية عائلاتها خيرة شبابها، وتكتظ قراها ومدنها بألوف مشوهي الحرب والمعوقين الذين يعانون الأمرّين دون أن تتمكن الدولة من تقديم المساندة والمساعدة لهم، فيمكن أن نفهم ونفسر تواتر انتقادات واتهامات أبنائها للسلطة السورية بأنها حولتهم إلى حطب رخيص لتسعير نار الصراع والمعارك كي تستمر في تسلّطها وتنعّمها بالأمان والخيرات.
ربما لم يبقَ للنظام السوري اليوم ما يمكنه من تقرير مصيره السياسي ومصير البلاد، وقد باتا مرهونين بما يتوافق عليه الأجنبي، لكن ما بقي له هو هذا التفنن الفريد في الجمع بين تدمير العمران ونهب ثروات المجتمع، وما فعله معول الطائفية البغيض من هدم وتمزيق في النسيج الوطني، والأهم السجل الأسود الذي يضم أرقاماً مخيفة عمّا ارتكبته أياديه بحق السوريين، وعن مئات ألوف الضحايا الذين سقطوا وقضوا جراء القصف والتدمير العشوائيين وبفعل المجازر المرعبة والقتل العمد تحت التعذيب... وعن مئات آلاف المعتقلين والمختفين قسراً والذين يلفّ مصيرهم الألم والغموض... عن ملايين المشردين الذين فقدوا أحبتهم وكل ما يملكون، ويهيمون على وجوههم بحثاً عن ملاذ آمن، نزوحاً داخلياً محفوفاً بالعوز والقهر والحرمان، ولجوءاً خارجياً أنّى تصل بهم أقدامهم المتعبة. | |
|