التاريخ: تموز ٢٥, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبنان يسير على غير هدى: الجشع المركنتيلي - سمير خلف
يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق مصيري في تاريخه الاجتماعي - الثقافي والسياسي الحافل بالمحطات والأحداث. قد ينطوي هذا الكلام على شيء من التبسيط المفرط، لكن البلاد لا تزال تسير على غير هدى لأنها مهدَّدة بمجموعة من المحَن الشديدة الوطأة والتحوّلات المسبِّبة للاضطرابات. وفي هذا الإطار، تبرز على الأقل ثلاثة ظروف مشوِّشة للاتجاه، نظراً إلى تداعياتها المشؤومة التي تتسبّب بتفاقم التناقضات والالتباسات الناجمة عن الانجراف على غير هدى. والأشد إيلاماً هو أنها تؤدّي حكماً إلى تقويض آفاق بناء ثقافةٍ سياسية قابلة للحياة قوامها التسامح والمواطنية الحقّة.

أولاً، لا يزال لبنان يعيش مخاض إعادة الإعمار والتأهيل بعد الحرب. فالفترات الفاصلة التي تمرّ فيها البلدان الخارجة من حروب، تكون ثقيلة الوطأة في العادة، حتى لو سادت فيها ظروفٌ طبيعية. وفي لبنان، تطرحُ لا محالة إشكاليةً أكبر بسبب ترسّبات الرعب والفتنة الجماعيَّين اللذين حاصرا البلاد على مدار نحو عقدَين من العنف المطوَّل والشريد والعقيم. وعلى الرغم من حدّة الأضرار والإصابات وحجمها، توالى القتال فصولاً. وكان مصدر الخطر الأكبر أنه مع اشتداد العداوة وتحوّلها إلى حروب طائفية وفئوية بين مجموعات متناحرة تتنازع على السيطرة والنفوذ، راح المقاتلون يقتلون مَن يستطيعون قتلهم لا من يريدون قتلهم. وهي أيضاً عداوة شريدة لأنها طالت مجموعات عشوائية وحوّلتها ضحايا بالوكالة من دون أن تكون هذه المجموعات معنيّة مباشرةً بالنزاع، كما طالت متفرّجين أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل. أخيراً، وفي جانبٍ مُهين بالقدر نفسه، كانت الحرب عقيمة لأن اللجوء إلى العنف لم يُفضِ إلى تصحيح الثغرات واختلالات التوازن في الداخل، ولا إلى دفع البلاد نحو تبنّي شكل أكثر مدنية وسلمية من أشكال التعددية أو العيش المشترك المحصَّن. وتبرز على نحوٍ موجع إحدى التبعات الملموسة لتلك السمات الثلاث المشينة التي تنطبع بها الفتنة الجماعية، فالعداوة والخوف والشكوك لا تزال سائدة على الرغم من توقُّف المظاهر الخارجية للقتال والممارسات الحربية. ويتجلّى ذلك من خلال الصدامات العنيفة التي تنفجر من حين لآخر بين مجموعات متناحرة. وهي لا تؤدّي سوى إلى مزيد من التفكّك وانهيار المرتكزات في المجتمع، ما يقود تالياً إلى استفحال جميع الالتباسات المقلقة جداً التي تنجم عن حالة الانقياد على غير هدى.

ثانياً، لبنان عالقٌ أيضاً في خضم منطقة تعصف بها الاضطرابات وتغرق في رواسب الخصومات التي لم تجد لها حلولاً. ناهيك عن المشكلات الداخلية، وهي لا تقتصر على أزمات التوريث السياسي، والإصلاحات الانتخابية، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وسلاح "حزب الله"، بل تشمل أيضاً هجرة الموارد الشابة القيّمة، وتدهور المَوطن الطبيعي، وانتهاك حقوق الإنسان والحريات المدنية، والتعرّض لحرية التعبير، ونزوح أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى لبنان. ولهذا نتفهّم جيداً أن يشعر هذا البلد الصغير والأعزل، المحاصَر وسط منطقة شديدة الاضطرابات، بالقلق بحثاً عن سبل تتيح له درء هذه المخاطر الخارجية أو تحصين نفسه ضدها. بالفعل، إنه مأزقه الأكثر إلحاحية.

أخيراً، تنساق البلاد في الآونة الأخيرة، بإرادتها أو رغماً عنها، وراء مختلف قوى العولمة وما بعد الحداثة وما تُسبّبه من زعزعة وإرباك، وتتمثّل هذه القوى في الأهمية المضخّمة لوسائل الإعلام والفنون الشعبية والترفيه في إطار الحياة اليومية؛ وتَكثُّف النزعة الاستهلاكية والتسليع ومظاهر الرداءة الخادعة؛ واحتضار المشاركة السياسية والوعي الجماعي للقضايا العامة واستبدالهما بالاهتمامات المحلية والضيّقة الأفق بالتراث والنوستالجيا. وفي الآونة الأخيرة، أعاد الصعود العالمي للنزعة الاستهلاكية الكثيفة إحياء الطبيعة المستعمِرة والمنفِّرة للاستهلاك الحديث. بطبيعة الحال، لهذه الظروف وقعٌ خاص في بلدٍ خارج من الحرب وغارق في رغبات مادّية مفرطة وانغماسٍ مسترسل وسط استعراض باذخ ومبهر للترفيه والاستهلاك الفاضحَين.

وتترتّب عن هذا التحوّل البنيوي الواسع نتائج أليمة ومثبطة. وتبرز في هذا الإطار ثلاث حقائق اجتماعية-ثقافية صارخة ومتّصلة على وجه الخصوص بالمسألة المطروحة. وهذه الحقائق ستؤدّي أيضاً، لا محالة، إلى تفاقم حالة الانسياق على غير هدى التي لا تزال بلادنا تتخبط فيها، والتي تزيد من حدّة مشاعر العداء والبارانويا بين الجماعات المتناحرة وفي صفوفها. والحقيقة الأولى هي العوارض الواضحة للانتماء القبلي المتجدّد الذي يتجلّى من خلال استيقاظ الهويات المتّحدية من جديد والرغبة الشديدة في البحث عن ملاذ داخل متّحدات مكانية متقوقعة. وتتمثل الحقيقة الثانية في مزاج الخمول واللامبالاة والسأم السائد في البلاد والذي يصل أحياناً إلى حدود الفقدان الجماعي للذاكرة. فهاتان الحقيقتان اللتان تبدوان متنافرتَين في الظاهر، تتعايشان راهناً في لبنان. والتوق إلى الطمس والتعتيم والنأي بالنفس عن الذكريات المخيفة لحربٍ بشعة لم تضع أوزارها بعد، أو الجهود الهادفة إلى الحفاظ على هذه الذكريات أو الاحتفاء بها هي، في مختلف الأحوال، تعبيرٌ عن شكلَين متناقضَين من أشكال حفظ الذات، وهما الحاجة إلى التذكّر والحاجة إلى النسيان. الحاجة إلى التذكّر تُلتمَس بصورة متزايدة في الجهود الآيلة إلى تثبيت الذات في المتحد أو في إعادة إحياء واختراع التضامنات المتحدية والتراث المهدَّد. أما الحاجة إلى النسيان فهي تعبّر على الأرجح عن ميول تهرّبية ونوستالجية للعودة إلى ماضٍ مشكوك في حقيقته. ثالثاً، يبرز في الآونة الأخيرة رد فعل غير مألوف آخر قد يُهدّد بتقويض بعض القيم الثقافية المحبّبة، وهي قيم الأصالة والألفة والبساطة. ففي أزمنة اللاستقرار السياسي المحلي والإقليمي، والمخاطر الاقتصادية المتعاظمة، والانقسامات الاجتماعية-الثقافية المستفحلة، قد نتوقّع من المجموعات أن تتحلى بحد أدنى من السيطرة على رغباتها في الاستحواذ على سلع مادّية، وكذلك السيطرة على سائر الانتظارات والأهواء المسرِفة والباذخة.

في الحالة الطبيعية، تُولّد الفترات الزمنية التي تلي الحروب أمزجةً قائمة على الرصانة وضبط النفس. وهكذا يكون الأشخاص أكثر ميلاً لكبح اندفاعاتهم التقليدية ويصبحون أكثر استبطاناً وتمالُكاً للنفس بهدف إعادة تقييم خياراتهم المستقبلية وإعادة توجيهها. غير أن الحرب في لبنان، وبدلاً من أن تُحرّر اللبنانيين من تجاوزات ما قبل الحرب، ولّدت لديهم، وهذه مفارقة، ردود فعل معاكسة. لقد أطلقت العنان للشهيات وأجّجت لدى الأشخاص رغبات جشعة في التملّك، والاسترسال في الترفيه والاستهلاك الفاضحَين، والتفلّت من القوانين من دون أي شعور بالذنب.

في مثل هذه الأجواء، تُشوَّه الأحداث العامة والخاصة – حتى الاحتفالات الأكثر حميمية وشخصية – فتتحوّل إلى مادة للفضول والاستعراض تجذب المستهلكين المخدوعين والواقعين تحت تأثير التروما أو تسعى إلى جذبهم. القصد هو الإبهار وتوريط الحشود في ثقافة جماعية متكلّفة ومصطنعة. يُقدّم لبنان اليوم نموذجاً حياً عن "مجتمع المشهدية الاستعراضية" (The Society of the Spectacle) (1995) الذي تحدّث عنه غي ديبورد، حيث يصبح هاجس المظهر وصناعة الصورة شكلاً من أشكال الوعي الزائف وإلهاء الرأي العام. فالجماهير الفاقدة للجذور التي تشعر بالغضب والمرارة وتُحرّكها الرغبة الملحّة في التعويض عن الوقت الضائع، تقع بسرعة تحت سحر المشاهد الاستعراضية التي هي أشبه بعرض هزلي فكاهي، والكليشيهات التافهة والانفعالات العاطفية المبتذلة. تصبح الأشياء والمشاهد والأحداث – حتى الرموز المحبّبة في الإرث الأثري والفني والمطبخي اللبناني – مبتذلة وعادية بفعل النظرة العامة المحدِّقة وأهواء الجماهير المستَثارة. وهكذا تتحوّل إلى مجرد مادّة مبهرة محرِّكة للمشاعر أو مادّة مثيرة للفضول.

بعض هذه الإفراطات شائنة جداً إلى درجة أنها تعاني أحياناً من مختلف العوارض البربرية لبدائل الحرب غير الأخلاقية. وهكذا يصبح السلوك الجامح والفوضوي أمراً روتينياً وبالكاد يستدعي تأنيباً أو استهجاناً أخلاقياً. فبدءاً من القيادة المتهوّرة، والتلوّث السمعي، ورمي النفايات عشوائياً، والتدخين المتفلّت من أي قيود وصولاً إلى الارتكابات الأشد فداحة مثل تدمير المَواطن الطبيعية في البلاد، وانتهاك قوانين البناء وتخطيط المناطق، والابتزاز والغش والفساد ونقص الوعي المدني والعام، جميع هذه الممارسات ضاربة الجذور في ثقافة البلاد القائمة على سياسة التساهل والتغاضي، وعلى الليبرالية الاقتصادية المفرطة والزبائنية السياسية.

لطالما أُطلِق العنان للمركنتيلية والقيم البورجوازية المصاحبة لها في لبنان الذي رأى فيه عددٌ كبير من المؤرّخين "جمهورية تجارية". لقد كانت نتائج النزعة التجارية المفرطة واضحة على نحوٍ أليم في سنوات ما قبل الحرب. وبعد الزيادات الهائلة في أسعار الأراضي، أصبحت تجارة العقارات من المصادر التي تدرّ الأرباح الأكبر وتساهم في تغذية الثروات الشخصية. وهكذا بات الإمعان في نهب المَواطن الطبيعية الخلاّبة بلا هوادة وتجريد مساحة العيش من طابعها الإنساني، واضحَاً جداً للعيان. وفي غياب السلطة الحكومية، باتت هذه التجاوزات أكثر تفشّياً. وما لم تدمّره الحرب نهشَه المتعهّدون الجشعون والمستهلكون المتهوّرون. وبالكاد يُفلت شيءٌ من قبضتهم اليوم. فالخط الساحلي الذي كان يحافظ على نقائه الطبيعي في السابق شوّهته معالم سياحية مبتذلة ومنتجعات قبيحة ومراسٍ (مارينا) خاصة رديئة وكذلك انتشار العشوائيات وغيرها من أشباه المساكن المتصدّعة وغير القانونية.

في ثقافةٍ تشربّت رواسبَ عداوةٍ ومركنتيلية غير مستكينتَين، يدرّ التعدّي على المَواطن الطبيعية أموالاً طائلة أيضاً. وهكذا يجد الجشع والعدواة الدفينة ضحيةً مناسبة بالوكالة.

عالم اجتماع وأستاذ متقاعد في الجامعة الأميركية في بيروت.
ترجمة نسرين ناضر عن الإنكليزية