| | التاريخ: تموز ٢٤, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | تعقيدات الأزمة السودانية - محمد سيد رصاص | مر السودان بمرحلتين للانتقال من الحكم العسكري للمدني: واحدة في عام 1964 قادتها حكومة مدنية دخلتها الأحزاب والنقابات المهنية، وأشرفت بعد ستة أشهر في نيسان (إبريل) 1965 على انتخابات برلمانية. حينها، كانت هناك تظاهرات ضد حكم الفريق ابراهيم عبود، إذ ضغط ضباط متوسطوا الرتبة كان من بينهم جعفر النميري الذي قاد الفترة الثانية للحكم العسكري بعد انقلاب 25 أيار (مايو) 1969 من أجل تسليم الحكم إلى المدنيين. الثانية بدأت في السادس من نيسان (إبريل) 1985عندما تم اسقاط حكم النميري عبر انقلاب عسكري أتى على خلفية مظاهرات ضد الحكم العسكري. وقاد مجلس عسكري الفترة الانتقالية لسنة كاملة حتى أجريت انتخابات برلمانية.
في 11 نيسان (إبريل) الماضي، تم اسقاط الحكم العسكري السوداني الثالث، الذي بدأ بانقلاب 30 حزيران (يونيو) 1989، من خلال انقلاب عسكري على نظام عمر البشير الذي اهتز أمام مظاهرات استغرقت نحو أربعة أشهر. تشكل مجلس عسكري بعد الانقلاب، ولكن تجربة 1985 لم تتكررعندما قبلت القوى السياسية والاجتماعية بقيادة مجلس عسكري رأسه الفريق عبد الرحمن سوار الذهب لفترة انتقالية. لم يستطع المجلس العسكري الانتقالي أن يحكم منفرداً في عام 2019، ولم تستطع القوى السياسية والاجتماعية التي تكتلت في تكتل عريض اسمه "قوى الحرية والتغيير" قبل عشرة أيام من سقوط البشير، أن تقلب الموازين لصالحها على رغم القوة التي أظهرتها في اعتصام السادس من نيسان (أبريل) أمام مقر قيادة القوات المسلحة، وقد استغل العسكر مأزق البشير ليقلبوا الأمور لصالحهم ويظهروا أنفسهم بوصفهم منقذين للسودان من حمام دم يبدو أن البشير سبق أن أخذ قراره قبل يومين من الانقلاب. لم تستطع "قوى الحرية والتغيير" أن تكرر تجربة ما بعد حكم عبود، ولم يستطع الفريق عبدالفتاح البرهان أن يكون في موقع سوار الذهب.
خلال ثلاثة أشهر امتدت حتى حتى توقيع الاتفاق السياسي في 17تموز (يوليو)، والذي يبدو أنه كان مزعزعاً مادامت أطراف كثيرة في "قوى الحرية والتغيير" رافضة له، ظهرت معالم أزمة سودانية عامة، تجلّت ملامحها في عدم قدرة العسكر على الحكم بمفردهم، وعدم قدرة المدنيين على فرض ما يريدون على رغم استعراض القوة المليونية لـ "قوى الحرية والتغيير" في شوارع العاصمة المثلثة في 30 حزيران (يونيو)، وصعوبة التوصل إلى حل وسط تشاركي يجمعهما في مركب واحد يقود السودان في المرحلة الانتقالية.
هنا، يعطي سودان ما بعد 11 نيسان (أبريل) 2019، ملامج جديدة عربياً: عسكر لايستطيعون التفراد بالسلطة، مجتمع لايدخل في "مملكة الصمت" بعد ثلاثين عاماً من حكم عسكري ديكتاتوري مدرع بتنظيم اسلامي وأيديولوجيته، أحزاب وتنظيمات مهنية تقود مظاهرات لأكثر من مئة يوم متواصلة تهز أركان سلطة عسكرية عنيفة من دون أي عنف معارض، تنظيمات سياسية تتشارك سياسياً ضد الحاكم في جبهة عريضة متناسية دماء ماضية بينها وخلافات سياسية عاصفة فرقتها في مراحل قريبة وبعيدة، حزب شيوعي عربي يظهر في مرحلة مابعد السوفيات بوصفه قوة رئيسة في بلده بعد تصفيات دموية مارسها ضده النميري و قمع عنيف له من قبل البشير.
ثمة أشياء جديدة أيضاً يمكن رصدها في الأزمة السودانية، ومنها: مسارعة "الاتحاد الافريقي"، مدعوماً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي،إلى تولي دور الإطفائي الوقائي خوفاً من اندلاع حريق سوداني بفعل الأزمة، إذ أن هناك تقديرات بأن تداعيات حريق كهذا، ستنعكس على المحيط والعالم بشكل أكبر بكثير من الحرائق والأزمات الليبية والسورية واليمنية، وهذا متوقع في حكم وجود أزمات سودانية مناطقية أفرزت حركات مسلحة في دارفور وجبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق، كما أن حرائق السودان إن وقعت، ستغذي نيرانها حرائق في الجوار (ليبيا) أوتشعل جمراً في مجتمعات مأزومة مجاورة مثل تشاد وإريتريا وإثيوبيا. ويمكن لسودان مشتعل ومضطرب أن يشكل قاعدة لاسلاميي مصر ضد حكم الفريق عبدالفتاح السيسي كماكان الأمر في التسعينيات ضد حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك في زمن الحكم الثنائي لحسن الترابي وعمر البشير، هذا إذا لم نتحدث عن استضافتهما آنذاك لأسامة بن لادن الذي تعرف في السودان على أيمن الظواهري. ولا يمكن تفسير الضغط الدولي - الاقليمي على "المجلس العسكري الانتقالي" من أجل الاتفاق مع "قوى الحرية والتغيير"، من دون التوقف عند ذلك، وكذلك الضغط عليهما من أجل أن يتضمن اتفاقهما ما يرضي الحركات المسلحة ويقنعها بالمشاركة في الفترة الانتقالية أوبإلقاء السلاح أوإسكاته. يلفت النظر هنا الدور الإثيوبي ومدى الدعم الدولي له بالتضافر مع دور "الاتحاد الافريقي" الذي أظهر نفسه كمنظمة اقليمية فعالة.
يمكن هنا المقارنة: في حرائق السودان الماضية،عند اندلاع تمرد الجنوب الأول (1955-1972) ثم التمرد الثاني (1983-2005) الذي انتهى بانفصال الجنوب في عام2011، كان هناك الكثير من عوامل التغذية الخارجية للتمردين. أما الآن، فهناك صورة معاكسة وحرص من المحيط الافريقي ومن الأميركيين والأوروبيين على تفادي انفجار الأزمة السودانية وتحولها إلى حريق في بلد يشكّل الجسر الرئيس بين العالم العربي وإفريقيا السوداء، ويقع على البحر الأحمر في زمن تلتهب فيه منطقتي باب المندب ومضيق هرمز. | |
|