| | التاريخ: تموز ١٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | العنصرية المتخفية - سلام الكواكبي | من السهل متابعة العنصريين المصرحين بذلك وإدانتهم والتنصّل من أية صلة تربطنا بهم. كما أنه من المتاح استشعار العنصرية المبطنة لدى من تحرمه الثقافة من غناها ومن تنوعها. تبقى المعضلة الأساس هي في إماطة اللثام عن المثقفين الذين يتحلوّن بعنصرية من الصعب الإمساك بأذرعها اللزجة كالأخطبوط، بمجرد الوقوف عند كلامهم أو متابعة كتاباتهم. إنها العنصرية الأشد إساءة والأكثر فاعلية عن سواها. كما أن تزاوج هذه العنصرية "الذكية" مع مواقف من ينتمي عرقياً أو مذهبياً إلى الطرف الذي تجري محاكمته أو التحذير منه أو التمييز حياله، فمن المحتم أن هذا المزيج سيُشكّل خليطاً خطيراً ومتفجراً. أي بالمحصلة أن يكون الشخص العنصري مثلاً ذكياً، مثقفاً، وينتمي إلى الفئة المستهدفة أساساً بالإساءات العنصرية أي تلك التي تعاني عموماً من التنميط العنصري في بلد ما.
فإن يهرف فرنسي يقطن الأرياف وهو الذي لم يُقابل "أجنبياً" في حياته بأنه لا يُحب الأجانب، فهذا مبعثٌ على التذمر سريع الذوبان وعلى ابتسامة سرعان ما تغادر الشفتين. وأن تحتج بريطانية من قرى ويلز على كثرة السود في شوارع لندن التي لم تزرها ولكنها شعرت بذلك فقط عبر ما تتابعه من برامج تلفزيونية، ففي هذا أيضا نوع من الفكاهة لا يمكن أن يتطوّر ليُشكّل نمطاً يستحق التعمّق في أصوله وفي مقوماته العنصرية الأكثر تأثيراً والأشد خطورةً والأمرَّ طعماً والأسوأ أخلاقاً والأقذر تعبيراً والأعمق تفسّحاً في أي مجتمع، فهي تلك التي تصدر عن "أفواه" المثقفين والنخب الفكرية في أي مجتمع كان إلا لمن لديه الوقت المتاح للخوض في مباحث علم الاجتماع في دراسة مطولة. كما أن يعتبر عامل دهان في أديس أبابا بأن العامل الأريتيري أشد سواداً منه لأنه يُزاحمه في العمل فهذا أيضاً مقدور عليه إن نحن تطوّرنا في نظرتنا إلى آلية اقتصاد السوق و"تدمقرطت" عملية إعادة توزيع الدخل. كلها وسواها هي ترجمات لعنصرية بدائية لا يجب نفي أنه يمكن أن يُبنى عليها حتماً، وفي مجملها، رغم أنها تستند أولاً وأخيراً إلى الجهل، وهي تشكل مع التراكم الكمي ومع التعاقب الزمني، إن لم يُعتمد لها معالجات فعالة وحقيقية، مرضاً اجتماعياً سيتطور وبالاً على الطرفين وأكثر.
أما العنصرية الأكثر تأثيراً والأشد خطورةً والأمرَّ طعماً والأسوأ أخلاقاً والأقذر تعبيراً والأعمق تفسّحاً في أي مجتمع، فهي تلك التي تصدر عن "أفواه" المثقفين والنخب الفكرية في أي مجتمع كان. كما أنها تلك التي تصدر عمن ينتمون إلى مجموعة بشرية "مثقفة" أيضاً، يُظن للوهلة الأولى بأنها مؤهلة للتصدي فكرياً ومعرفياً والوقوف سداً منيعاً للدفاع عن أبناء جلدتها الذين هم ضحايا محتملون لعنصرية ما.
فالفئة الأولى، وتحفل بها وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وتلفزة وإذاعات، وهي مؤلفة من "فلاسفة" و"باحثين" ورجال "فكر". وسرعان ما تنعكس تصريحاتهم المموّهة الخادعة، من خلال تعبيرات أقل ذكاءً وأشد وقاحة في وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة. فهم سيطرحون نظريات كتلك التي "أبدعها" من يستعيده بعض الجهلة من دون معرفة أصله وفصله، الكاتب اليمني الفرنسي الفاشي رونو كامو حول "الإحلال الكبير" أو في تطوير ذهني أقل اشتغالاً، نظريات "الاندماج الكاذب" للفاشي الآخر الذي يُعجب بعض "المثقفين" في الدول العربية، إيريك زيمور، والذي خجلت رئيسة الحزب اليميني المتطرف في فرنسا مارين لوبين أن تضمه إلى قائمتها في انتخابات يسعى كارهو الذات بالتضامن والتكافل مع منظريهم من أصحاب الفكر اليميني المتطرف، إلى تعزيز "أدبيات" التحليل السسيولوجي العنصري للبرلمان الأوروبي لما وجدت فيه من تطرف. وحريٌ بالقول، بأن من يُعجب بأمثال هؤلاء ويُدافع عن مواقفهم، وهم المخجول منهم في أوساطهم الأم، هم فئة من الناس، إن انتمت إلى ثقافات أو مجموعات مُشارٌ إليها باللوم والتنديد والتحقير من قبل من تدافع عنهم، تكره ذاتها، أو إنها، وفي أحسن الأحوال، تبحث عن تميّز وبروز على حساب أي نوع من أنواع القواعد السليمة للتفكير وللتحليل، حتى لا نتطرق إلى المسألة الأخلاقية التي لا يمكن البتة الدفاع عنها عندما يتحالف كارهو الذات من المهاجرين مع أصحاب الفكر التمييزي والرهابي من "أهل" بلد المهجر.
يسعى كارهو الذات بالتضامن والتكافل مع منظريهم من أصحاب الفكر اليميني المتطرف إلى تعزيز "أدبيات" التحليل السسيولوجي العنصري والتي تجتاح أولاً وسائل الإعلام، لتصبح ثانياً مرتعاً لتطوير بعض الأوراق البحثية التي تعتمد على مبدأ "لا تقربوا الصلاة"، مما يُنعش الطرفين. فالثاني يحتمي بالأول مدّعياً أن لديه أصدقاء من "أولئك"، فلا يصح اتهامه بكره الأجانب. والأول يستظل بفكر الثاني مُميّزاً ذاته المعقدة والتي تتراكم فيها مخلفات مجتمعات لم تعطه حقوقه الأساسية إضافة إلى صدمات وخيبات ذاتية، تنعكس كلها في المحصلة في بناء مدامك كره الذات وما أكثرها. وأخيراً، هناك حليف لهذا الثنائي الخطير، وهو ليس العنصري الجاهل البسيط فحسب، بل أيضا وأساساً ذلك الذي يظن بأنه الضحية التي تتعرض للتمييز وللممارسات العنصرية، والذي يقوم بمواجهة هذا الهجوم بهجوم مضاد يعتمد نفس اللغة ونفس الأساليب. إنه بذلك يؤدي إلى خسارة القضية للكثير من مستلزماتها الأخلاقية والمبدئية. فالعنصرية لا تواجه بالعنصرية. عنصرية الجهل تواجه بالتعليم، والعنصرية المتخفية لبعض أهل العلم، تواجه بعلم وبفكر وبتطوير أساليب أخلاقية ومنطقية لتفكيك خطابها ولدحر مكوناتها مهما تعمّقت ومهما تكاتفت ومهما اعتمدت على كارهي الذات من بعض الضحايا.
مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس
أستاذ مشارك في جامعة باريس | |
|