| | التاريخ: حزيران ٤, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | للشعب السوري الحق في معرفة من يقتل أطبّاءه ويُدمِّر مستشفياته | الدكتور أحمد طرقجي
"هل سيتم قصف مشفانا غدا؟" تساؤل بلغني أمس من طاقمنا الطبي في أحد مشافينا داخل سوريا والذي يخدم أكثر من 300.000 نسمة في هذه المنطقة. تم بناء المستشفى داخل المدينة لتقديم الخدمات الطبية للناس بيسر دون أن يتكلفوا عناء السفر لمسافات طويلة على الطرق الخطرة وبما يحقق الاستقرار في المدينة والقرى المحيطه بها.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، تم تنفيذ أكثر من 25 هجومًا على المستشفيات والمراكز الطبية في جنوب إدلب مما أدى إلى توقفها جزئيًا أو كليًا عن تقديم الخدمات الطبية، منها مشفيان للتوليد وأمراض النساء. استمر القصف على هذه البلدات لتدمير بنيتها الأساسية العمرانية بشكل لا يبقى معه للنازحين أية منازل بديلة يعودون إليها. بقي المشفى صامدا كآخر مركز طبي كبير جنوب مدينة إدلب ومن المرجح أن يكون الهدف التالي. يمكن للمرء أن يتخيل مدى توتر الطاقم الطبي والمرضى الذين ينتظرون حدوث القصف في أية لحظة.
في سوريا، تم توثيق أكثر من 500 هجوم على منشآت طبية منذ بداية النزاع. أكثر من 90٪ من هذه الهجمات ينفذها النظام السوري وحلفاؤه. عانت مستشفياتنا في الجمعية الطبية السورية الأميركية من حوالي ثلث هذه الهجمات في السنوات الأربع الماضية.
منذ العام 2013، استهدف النظام السوري وحلفاؤه المنشآت الصحية ومراكز المساعدة الإنسانية بشكل ممنهج. في حلب والغوطة، كان "الاستهداف المزدوج" منتشراً على نطاق واسع، وهي تقنية عدوانية قاسية ومرعبة إذ يعاود الطيارون استهداف المنشأة ذاتها بعد قدوم الطواقم الإسعافية إليها عقب الاستهداف الأول بغية تقديم المساعدة الإسعافية المنقذة للحياة. تلقي الطائرات المهاجمة براميل بدائية متفجرة على هؤلاء المسعفين، ويتبع ذلك في بعض الأحيان "استهداف ثلاثي"، وهو استهداف المستشفيات المرجعية التي تنقل سيارات الإسعاف المصابين إليها من المشافي المستهدفة.
في محاولة لإضافة المزيد من الحماية لهذه المرافق، عرضت الأمم المتحدة آلية لتحييد المشافي. معظم هذه المستشفيات معروفة ومدعومة من وكالات الأمم المتحدة الإنسانية. تتضمن هذه الآلية تحديد إحداثيات هذه المستشفيات بوضوح ومشاركتها مع أطراف النزاع كطريقة لحماية هذه المستشفيات من "الأضرار الجانبية" أثناء المعارك. وفي حال استهدفت منشأة محيّدة يتم فتح تحقيق في هذه الهجمات.
بعد الحصول على موافقات من بعض المستشفيات التي تم استهدافها بشكل متكرر، أعلنا عن تسجيلنا في هذه الآلية خلال جلسة استماع لسفراء مجلس الامن عن سوريا أمام 14 من سفراء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (Aria Session). تعرضت 8 من هذه المستشفيات لهجوم مباشر في الأسابيع القليلة الماضية عقب دخولها في آلية التحييد رسميا، وكان الضرر كبيرًا تسبب بوضعها جزئيًا أو كليًا خارج الخدمة. في الأسبوع الماضي أثناء اجتماع مجلس الأمن بشأن سوريا، كانت وكالات الأمم المتحدة تقوم فقط بتوثيق الهجمات على هذه المنشآت وحساب الضرر الناجم عنها ، لكن لم يتم إجراء تحقيق حقيقي نزيه وشفاف ومحايد.
في العام 2015، زرت المستشفى المذكور في فاتحة المقالة بعد تعرضه لقصف عنيف من الجيش السوري. المستشفى يتموضع على تل صغير يطل على مدينة مكتظة بالسكان. تم قصف الطوابق الموجودة فوق الأرض وتسبب ذلك بتهدم بعض جدرانه وجزء من السقف، وتم تدمير المدخل والواجهة الأمامية جزئيًا. حاول الطاقم الطبي إنقاذ المعدات الطبية ونقلها إلى الطوابق السفلية. لم يتوقف المرضى عن القدوم إلى المستشفى حيث يزور المشفى والعيادات الملحقه به اكثر من ٣٠٠ مريض يوميًا .
في اليوم الثاني، زرت بلدة أخرى قريبة بغية تأسيس مشفى جديد، لكن سكان البلدة رفضوا احتضان المستشفى لأن ذلك سيؤدي إلى استهداف بلدتهم وبشكل متكرر كما هي العادة. جميع المحاولات لإقناع السكان المحليين ذهبت دون جدوى. على مر السنين، أنشأنا برامج التعليم الطبي في هذا المستشفى وبالقرب منه لتحسين جودة الخدمات الطبية المقدمة في شمال غرب سوريا. وشملت هذه البرامج مدرسة للقبالة ودورات تدريبية للأطباء.
في سبتمبر 2018، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار ضمن خطة إنشاء مناطق خفض التصعيد في سوريا برعاية روسيا وتركيا. زرت المستشفى مرة أخرى ذلك الأسبوع.
كان الصيادلة والأطباء ينتقدون صراحة شح الموارد الطبية المحدودة التي يتلقونها من وكالات الإغاثة الأممية والدولية، فالمواد الطبية تكفي بالكاد مدة 10 أيام الأولى من الشهر. لن أنسى وجه أم متوسطة العمر عندما أبلغها الصيدلاني أن الصيدلية نفد منها المضادات الحيوية الضرورية لطفلها الصغير الذي كانت تحمله على كتفها. سألته "كيف يمكنني الحصول على هذه المضادات الحيوية إذاً؟ ومن أين؟"
قرب الحدود التركية السورية، كانت المراكز الطبية تعمل بأقصى طاقاتها بسبب موجات المهجرين رغم إمكانياتها المحدودة.
تحاول منظمات مثل الجمعية الطبية السورية الأميركية، جنبًا إلى جنب مع منظمات غير حكومية أخرى، رأب الفجوة في مجال الإغاثة الطبية. ومع ذلك، فإن الهجمات الممنهجة على المرافق الطبية، إلى جانب موجات النزوح (التهجير) الكبيرة، قد استنفدت مواردنا وأثرت بشكل سلبي على قدرتنا على الاستجابة .
خلال الأسابيع القليلة الماضية، تم تشريد أكثر من 200.000 شخص إلى المنطقة القريبة من الحدود. بالكاد تكون العيادات المتنقلة التي أطلقناها قادرة على مواجهة قدر محدود من الاحتياجات الضخمة. بالأمس، تم زرع عبوتين ناسفتين بالقرب من اثنتين من الوحدات الطبية الحدوديه، تسبب الانفجار بإلحاق أضرار بالمباني.
وعوداً على بدء، ومع الهجمات المستمرة، يعرف طاقمنا الطبي في المستشفى المذكور أنه غالبا سيكون الهدف التالي، لكن التزامهم بخدمة مجتمعهم لا يتزعزع، ولن يتركوا مدينتهم. يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية كبيرة عن ترك عمال الإغاثة دون حماية القانون الدولي. نحن، الكوادر الطبية السورية، نشعر بأننا تُركنا لندفع ثمن التزامنا بمجتمعاتنا حيث يتم استهداف المنشآت الصحية بشكل متكرر وممنهج دون أي إجراء قانوني لحمايه الأطباء والتحقيق الفعلي والشفاف بالهجمات، مما يزيد من تصاعد استهداف المشافي في جميع الصراعات المماثلة حول العالم.
إن وقف الهجمات على المستشفيات في جميع أنحاء سوريا ومحاسبة مرتكبيها أمر ضروري وهو عنصر أساسي للاستقرار. علينا جميعا أن نعمل لتفعيل هذا المبدأ الهام والحيوي.
يتعين على مجلس الأمن الدولي فرض موقفه الأخلاقي الذي يدعو إلى حماية العاملين في المجال الإنساني والمستشفيات بشكل خاص، وتأسيس آلية فعالة متخصصة للتحقيق في هذه الهجمات.
إن للشعب السوري الحق في معرفة من الذي يقتل أطباءه ومن يدمّر مستشفياته.
يجب أن تتوقف هذه المذبحة.
رئيس الجمعية الطبية السورية الأميركية (SAMS) | |
|