| | التاريخ: أيار ١٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | العالم العربيّ بين حراك شعبيّ حتميّ وتحوّل ديموقراطيّ عسير- الأب صلاح أبوجوده اليسوعي | "ثمّة ما هو أسوأ من الأفكار السيّئة التي تراود الإنسان، ألا وهو تقبُّل الأفكار الجاهزة. وثمّة ما هو أسوأ من روحٍ فاسدة، ألا وهو أن تكون روح الإنسان متعوِّدة"
(شارل بيغي)
تصطدم قابليّةُ عدوى الحراك الشعبيّ الجاري في كلٍّ من الجزائر والسودان حاليًّا، بحيث تعمّ باقي الدول العربيّة أو بعضها كما حصل في العام 2011، في نظر بعض المراقبين، بثلاثة عوائق أساسيّة، هي: أوّلاً، خصوصيّات المجتمعَين المعنيَّين وتحدّياتهما الداخليّة؛ وثانيًا، عدم قدرة البلدَين المذكورَين لأسباب تاريخيّة وجغرافيّة على التأثير سياسيًّا في الأوساط الشعبيّة العربيّة كافّة؛ وثالثًا والأهمّ، نتائج "الربيع العربيّ" الكارثيّة التي تتراوح بين حروب أهليّة اكتسبت أبعادًا إقليميّة ودوليّة، وأوضاع سياسيّة واقتصاديّة هشّة، وعودة الأنظمة التسلطيّة. واللافت أنّ إعلام الدول العربيّة التسلطيّة يوظِّف هذه العوائق على طريقته لإقصاء كلّ تأثير ممكن للحراك الجزائريّ والسودانيّ في الأوساط الشعبيّة العربيّة. وفي المقابل، ثمّة مَن يحبّذ قابليّة العدوى، وإن كان يتّخذ موقف الحذر والتعقّل منطقيًّا حيالها. ذلك أنّه يجب التفريق في الحراك الشعبيّ بين إمكانيّة حصوله وأهدافه. فالإمكانيّة متوافرة بوضوح؛ وبالتالي، فقابليّة العدوى واردة بقوّة؛ أمّا الأهداف فمسألة أخرى. ومن الضروريّ التفريق بين الأمرَين بغية فهم الواقع وتحدّياته فهمًا أعمق.
في ما خصّ قابليّة العدوى، أوّلاً، يكشف انطلاق الحراك الشعبيّ في كلٍّ من الجزائر والسودان، بالرغم من أهوال نتائج "الربيع العربيّ"، عن قناعة راسخة في أذهان المواطنين، تقول بعدم إمكانيّة تحمّل بقاء النظام القديم، وبعدم إمكانيّة إصلاحه. وتتّضح هذه القناعة في إصرار الحراك الثابت في البلدَين المذكورَين على إسقاط النظامَين القديمَين بالكامل، وإقصاء جميع رموزهما عن المشهد السياسيّ بدون استثناء. ويمكن تعميم هذه القناعة على البلدان العربيّة بالنظر إلى العناصر المشتركة التي تميّز الأنظمة القديمة، وإن اختلفت أشكالها. وفي طليعة هذه العناصر مفهوم "الدولة الريعيّة" السائد الذي يجعل من النظام محور حركة الاقتصاد، ومن المواطنين "رعايا" لديه. فالثقافة التي ترافق الدولة الريعيّة، في الدول الغنيّة أو الفقيرة على السواء، تقوم على مبدأ السيطرة على السكّان من خلال التحكّم بمصادر الريع، واحتكار التوظيف في مختلف ملاكات الدولة، والسيطرة على الخدمات الاجتماعيّة، بحيث تصبح كلّ وظيفة تُمنح، وكلّ خدمة تُسدى، وكلّ تسهيل لمبادرة اقتصاديّة، عطيةً من كرم النظام، يُفترض أن يقابلها ولاء الرعايا الكامل له. وبالتالي، تترسّخ أكثر فأكثر الأُحاديّةُ السياسيّة، وشخصنة النظام بل والدولة، وإمكانيّة تسخير الشعب واستخدام القضاء والقوى الأمنيّة والعسكريّة لقمع كلّ معارضة باتت عرضةً لتلصق بها تهمة الإرهاب منذ "الربيع العربيّ". وفي حين أنّ الدول الغنيّة تلجأ إلى سياسة تأمين الرفاهية وتخفيض الضرائب بغية الحفاظ على إخلاص سكّانها، تلجأ الدول الفقيرة إلى معالجات اقتصاديّة محدودة التأثير وقصيرة المدى في حالات الأزمات الشديدة، لا تلبث أن تنتهي إلى فشل، وعودة إلى أولغارشيّة اقتصاديّة تلاصق الحكم. وفي الواقع، لا يمكن الأنظمة التسلطيّة أن تقوم ببرامج إصلاح جديّة، ووضع رؤى اقتصاديّة تهدف إلى تطوير البُنى التحتيّة التي تفترض تزويد القوّة العاملة مستوىً عاليًا من المهارات، وإطلاق يد القطاع الخاصّ والاستثمارات الخارجيّة، لأنّ وقع مثل هكذا توجّه على المشهد السياسيّ سيكون شديدًا، إذ يمكن أن يشرّع الأبواب على التعدديّة السياسيّة. ذلك أنّ رفع مستوى التعليم وإطلاق النهضة الاقتصاديّة على أسس ليبراليّة وإن محدودة، يعزّز فرص الحريّة الشخصيّة، والمطالبة بحقوق العمّال، وسعي القوى الاقتصاديّة المتنافسة إلى التأثير في صنع القرار السياسيّ خدمةً لمصالحها.
إضافةً إلى مفهوم الدولة الريعيّة السائد، تبرز مشكلة التربية والتعليم في ظلّ الأنظمة التسلطيّة أيضًا في البلدان الغنيّة والفقيرة على السواء. إذ إنّ هذا القطاع الأساسيّ في كلّ عمليّة تطوير لأوضاع المجتمعات العربيّة، يخضع لسيطرة النظام وتمويله، مع بعض استثناءات المؤسّسات التربويّة الخاصّة الأجنبيّة التي تخضع لرقابة حكوميّة شديدة. ويغيب عن برامج التكوين، في المدارس والجامعات، تطوير الكفاءات المدنيّة، ويستمرّ الاتّكال على التقليد، الأمر الذي يخلق بيئة استبداديّة بامتياز. وبالرغم من أنّ جامعات عربيّة قد احتلّت مؤخّرًا مراكز متقدّمة جدًّا في تصنيفات ضمان الجودة إقليميًّا ودوليًّا، فإنّ دورها معدوم في ما خصّ نشر حقوق الإنسان، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، والدفاع عن حقوق العمّال الأجانب، وتطوير ثقافة ديموقراطيّة. ويبقى ثمّة بونٌ شاسع بين ما يُعلن عن برامج تحديثيّة وتطبيقها الفعليّ.
من الجليّ إذًا أنّ عوامل تفجّر حراك شعبيّ في غير بلدٍ عربيّ متوافرة بكثرة، وإن يبقى توقيته رهنًا بظروف داخليّة، مثل نجاح الناشطين المدنيّين في تعبئة الأوساط الشعبيّة ولا سيّما الشبابيّة منها؛ وخارجيّة مثل عزل الدول الكبرى الفاعلة إقليميًّا النظام القائم أو الامتناع عن دعمه. فإن كان ثمّة نتيجة إيجابيّة من "الربيع العربيّ" فهي قناعة الأوساط الشعبيّة المتزايدة بأنّ التخلّص من الأنظمة التسلطيّة والفاسدة سبيل الرجاء الوحيد. غير أنّ السؤال المطروح يتعلّق بالشروط الضروريّة التي تسمح لأيّ حراك شعبيّ بإرساء أسس نظام ديموقراطيّ حديث.
يكتنف الغموض، في الواقع، أهداف الحراك الشعبيّ الجاري حاليًّا في الجزائر والسودان. إذ إنّ الإصرار على التخلّص نهائيًّا من النظام القديم ورموزه لا يقابله برنامج واضح، وهذه الحالة تذكّر أيضًا بما حصل إبّان "الربيع العربيّ". فالمعارضة في البلدَين مشتّتة وتفتقر إلى مؤسّسات قويّة تعبّر عن تصوّراتها. ويبدو الجيش في الحالتَين مالئ الفراغ، والذي سيكون له دور كبير في عمليّة الانتقال المجهولة المعالم. فهل سيؤدّي الوضع إلى استبدال نظام تسلطيّ بنظام مماثل؟ وهل ستنجح محاولات الأنظمة التسلطيّة الإقليميّة بحصر الحراك الشعبيّ في البلديَن من خلال إضعاف المعارضة والتحريض على قمعها، وعقد اتفاقيّات في الكواليس مع ضبّاط الصفّ الأوّل؟ إنّ الوضع حرج بلا شكّ، إذ إنّ قوى المعارضة تحتاج إلى وقت لتنتظم وتحدّد أهدافها. وعلى أمل أن يجتمع العسكر وقادة الحراك على توفير الجوّ الملائم لهذا الغرض، الأمر الذي سيكون له وقعه الإيجابيّ على أيّ حراك محتمل في باقي المجتمعات العربيّة، فمن المهمّ التوقّف على ما يمكن أن يؤلّف أهداف الحراك الجاري.
في إطار التعليق على ما يحدث في الجزائر والسودان، دعت مصادر رسميّة فرنسيّة وروسيّة مؤخّرًا إلى أن يتواصل التحوّل إلى الديموقراطيّة في البلدَين بهدوء وسلام، ومن دون تدخّل خارجيّ. فهل الحراك يهدف إلى إقامة نظام ديموقراطيّ؟ يعود الجواب إلى قادة الحراك. ولكن تحسُن الإشارة إلى ضرورة توضيح علاقة الديموقراطيّة بالظروف الاقتصاديّة، من جهة؛ وشروط الديموقراطيّة في العالم العربيّ، من جهة ثانية. ففي ما خصّ المسألة الأولى، يمكن الإصلاح الاقتصاديّ الذي يرافقه تحسّن مستوى الحياة والتربية وتطوّر الطبقة الوسطى، أن يؤدّي إلى الديموقراطيّة، ولكنّ هذا ليس أمرًا محتّمًا. ذلك أنّه يمكن أيّ نظام تسلطيّ أن يضمن نموًّا اقتصاديًّا جيّدًا، بمعزل عن أيّ إصلاح ديموقراطيّ. فهذا ما حصل ويحصل، على سبيل المثال، في عددٍ من البلدان الآسيويّة الصناعيّة؛ ولعلّ هذا ما حصل في الجزائر أيضًا في الفترة الأولى من حكم عبد العزيز بوتفليقه. أمّا في ما يتّصل بالمسألة الثانية فإنّ الديموقراطيّة لا تقتصر على آليّة تعيين الحكّام، بل هي طريقة حياة تتأصّل في الأخلاق، وتسلِّم بأنّ الفرد كائنًا عقلانيًّا ومستقلاًّ يحدِّد سلوكه وقراراته تبعًا لخياراته، وتتجسّد في المؤسّسات الدستوريّة والبُنى الاجتماعيّة. وفي ضوء هذه الحقيقة، إذا كان الحراك الشعبيّ أصبح حالة تفرض نفسها لأنّها متّصلة بضمير الشعوب العربيّة بسبب نتائج حكم الأنظمة التسلطيّة، فإنّ التحوّل الديموقراطيّ يحتاج إلى تغيير معطيات ثقافيّة كثيرة لا تزال راسخة في تلك الضمائر عينها.
أستاذ في جامعة القديس يوسف | |
|