| | التاريخ: أيار ١٠, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | تفاعلات الأزمة الليبية... وغموض المسار السياسي - حسين معلوم | تطرح معركة طرابلس تساؤلات متعددة، ليس فقط حول المسار السياسي للوضع في ليبيا تبعاً لـ "اتفاق الصخيرات" الموقع برعاية الأمم المتحدة؛ ولكن أيضاً، وهذا هو الجدير بالاهتمام، حول المواقف الدولية والإقليمية في شأن مستقبل ليبيا عموماً، وكيفية حل الأزمة التي تتعرض لها البلاد بشكل خاص. وذلك من منظور أن ما يحدث على الساحة هناك، من تجاذبات واستقطابات حادة بين أطراف المعادلة الليبية، هو في أحد تجلياته، تعبير عن امتدادات لتناقض المواقف والمصالح بين أطراف فاعلة دولياً وإقليمياً.
كلامنا الأخير هذا، تدل عليه وتؤكده محاولة بعض الأطراف الدولية، خصوصاً الأوروبية، فضلاً عن بعض القوى الإقليمية، اختزال الأزمة الليبية بين شخصي السراج وحفتر، ما يُمثل أحد أهم العوامل التي تؤسس إلى مزيد من تعقيدات المشهد؛ وهي مسألة مقصودة، إذ أن الوضع في ليبيا بات يُمثل تهديداً للأوروبيين، بسبب وجود تنظيمات سلفية جهادية ومتطرفة، فضلاً عن تصدير الهجرة غير الشرعية عبر سواحلها إلى جنوب أوروبا؛ هذا بالإضافة إلى التنافس حول الموارد الليبية، وتحديداً النفط والغاز.
وبعيداً من محاولات "شخصنة" الأزمة، ومدى نجاحها النسبي، فإن الساحة الليبية تشهد انقساماً سياسياً وعسكرياً منذ سقوط نظام القذافي، أسفر عن حكومتين وبرلمانين، إضافة إلى جماعات قبلية وميليشيات متنافسة ومتناحرة في طرابلس غرباً، وطبرق والبيضاء شرقاً، إضافة إلى الجنوب الليبي الذي يشهد بين حين وآخر مواجهات عسكرية بين كتائب مرتبطة بالقبائل هناك. ولا عجب، والحال هذه، أن يثور التساؤل حول مستقبل ليبيا، من منظور العوامل الدافعة إلى الفوضى هناك؛ فضلاً عما يحدث على هذه الساحة من تجاذبات واستقطابات حادة بين الأطراف الفاعلة على الساحة. والمثال الواضح، هنا، هو "اتفاق الصخيرات" الذي فشلت الأطراف الليبية في تفعيله، على امتداد جلسات الحوار التي استضافتها تونس على مدى أشهر؛ على رغم أنه (الاتفاق) لا يزال هو الأساس الذي تعتمده الأمم المتحدة، كإطار سياسي للتوصل إلى حل للأزمة الليبية. وفي ظل غموض الحل السياسي؛ إلا أنه تبعاً لما يؤشر إليه الوضع الليبي، وتحركات القوى "الفاعلة" في إطاره، فإن ثمة احتمالات مستقبلية ثلاثة تلوح في الأفق. أول هذه الاحتمالات، تفكك ليبيا إلى أقاليم ثلاثة (برقة وفزان وطرابلس)، وهو ما يعني الانهيار الكامل للدولة الليبية. إلا أن هذا أمر بعيد المنال على مريديه، نتيجة عدد من العوامل، منها: غياب عامل الاختلاف الديني، إذ إن ليبيا دولة مسلمة سُنِّية، ولا وجود لديانات أخرى فيها، إلا من الأجانب؛ فضلاً عن غياب عامل الاختلاف العرقي، فالأغلبية المطلقة من الليبيين عرب. أما العامل الوحيد الذي يلعب عليه بعض الأطراف، فهو التاريخ البعيد، أيام كانت ليبيا عبارة عن أقاليم ثلاثة، قبل أن تتوحد في إمارة واحدة تحت اسم ليبيا. ومن ثم، فإن الوحدة الوطنية، التي لم يستطع نظام القذافي أن يتحول بها من الوضعية القبلية إلى الاندماج الوطني، قد لا تصمد كثيراً أمام استمرار العبث في حقوق بعض مكوناتها، أو استمرار تعامل "السلطات" الحاكمة بمفهوم يختزل ليبيا في مدينة طرابلس وما يجاورها. الاحتمال الآخر، يتمثل في تحول ليبيا إلى دولة فيديرالية، تتمتع فيها الأقاليم الثلاثة بحكم ذاتي، في إطار سلطة عامة تحكم البلاد. إلا أن غياب هذه الأخيرة، وكذلك غياب المؤسسات الأمنية المركزية، مثل الجيش، التي يمكن أن تُمثل الرابط الأساس بين الأقاليم، فضلاً عن عدم وجود قاعدة توافق بين القوى السياسية حول الفيديرالية؛ كل ذلك يجعل من هذه المسألة، كنظام سياسي للحكم، أمراً يصعب تنفيذه على الأقل في المدى الزمني القريب.
ضمن أهم المؤشرات على ذلك، تأتي التباينات الواضحة حول الفيديرالية بين الفاعلين المحليين. إذ، بينما يُفضل زعماء الغرب الليبي الحفاظ على الدولة المركزية، التي تُمثل طرابلس مركزها الرئيس، تضغط بعض قيادات الشرق والجنوب، القبلية، في اتجاه اللامركزية، وهو اتجاه يجد صداه لدى بعض الأصوات الانفصالية، الداعية إلى فك الارتباط في العاصمة طرابلس، في محاولة لتقوية النفوذ القبلي والجهوي والمناطقي.
أما الاحتمال الأخير، فهو الإبقاء على ليبيا دولة منزوعة السيطرة على بعض مناطقها، نظراً لضعف تأثير الوظيفتين الأمنية والتنموية، وسيطرة الميليشيات المسلحة على مناطق بعينها. إذ، من بين الدول العربية التي شهدت ثورات على أنظمة الحكم وإسقاط رؤوسها، انفردت ليبيا بظاهرة الميليشيات المسلحة؛ وهي الظاهرة التي أسهمت في ذلك التدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي طوال السنوات الماضية. يتوازى مع ذلك تفكك السلطة وتبعثرها بين القوى السياسية المتناحرة، في ظل غياب حكومة قوية تستطيع السيطرة على الأوضاع في البلاد. ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب إلى الحالة الليبية، على الأقل في المدى الزمني القصير.
نقول إن هذا الاحتمال هو الأقرب، لما يبدو بوضوح من أن القوى الغربية عموماً، والولايات المتحدة بشكل خاص، تحاول التملص، أو تحديداً التنصل من مسؤولياتها تجاه ما يحدث على الساحة الليبية، من فوضى وعدم استقرار ومشاحنات داخلية ومواجهات عسكرية؛ بل، وتحاول أن تتناسى مسؤوليتها في ما حدث وما يزال يحدث. وبعيداً عمن نظرية المؤامرة، وعما يسميه البعض بالتفكير "الخرافي"، فإن الواقع يشير إلى "حلف شمال الأطلسي"، الذي أدخل ليبيا إلى هذه الأزمة التي تكاد أن تُمزق البلاد، عندما تدخل عسكرياً في ليبيا، ثم تركها تنشغل في حروب وصراعات داخلية، واضعاً نصب أعينه العودة إلى هذه الساحة بموقعها المتميز استراتيجياً، ومواردها التي يحتاج الغرب إليها، في حال خرجت الأزمة الليبية عن "السيطرة". هكذا، لنا أن نتصور مدى ما يمثله الوضع المتردي على الساحة الليبية من تهديد حقيقي، ليس لبنية الدولة الليبية، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً؛ إنما وهذا هو الأهم، مدى ما يمثله ذلك من عامل خطورة على الوضع العام بالنسبة إلى الدول المجاورة لها؛ خاصة إذا لاحظنا التمدد القبلي عبر الحدود بين ليبيا وجيرانها: مصر في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب، وتشاد والنيجر ومالي في الجنوب.
وبالتالي، فإن ما نود تأكيده هنا، هو أنه لا يُمكن للعرب عموماً، ولدول الجوار الليبي العربية بشكل خاص، ترك هذا البلد ومستقبله للآخرين، ولنا في العراق والصومال والسودان نماذج صارخة على تداعيات ترك الآخرين، الأوروبيين والأميركيين، ليحددوا مستقبل هذا البلد العربي: ليبيا. وبكلمة: "ليس كل التاريخ مؤامرة، ولكن المؤامرة توجد في التاريخ".
* كاتب مصري. | |
|