| | التاريخ: أيار ٨, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | الاختلافات بين "الربيعين" العربيين تحدد ملامح المستقبل - محمد شومان | هناك سمات مشتركة بين الانتفاضات العربية عامي 2011 و2012 التي تُعرف بـ "ربيع العرب الأول"، وانتفاضتي الشعبين السوداني والجزائري، أهمها الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي في الحشد والتعبئة، وغلبة العناصر الشبابية، والافتقار إلى الأيديولوجيا والبرنامج لمرحلة ما بعد الإطاحة برموز الأنظمة الاستبدادية، علاوة على غياب القيادة والتنظيم، في وقت أثبتت الأحداث إفلاس الأحزاب القائمة وتخلفها عن مواكبة الحراك الشعبي أو قيادته. إلا أن التشابه بين "الربيعين" لا يجب أن يخفي حقيقة وجود بعض مظاهر الاختلاف بينهما، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لاختلاف الزمان والمكان وتغيّر المناخين الإقليمي والدولي. ولعل أهم مظاهر هذه الاختلافات يتجلى في الآتي:
- اختلاف السياق التاريخي، بعدما مرت على الربيع الأول قرابة ثماني سنوات صعبة، كشفت أسباب تعثر انتفاضات "الربيع العربي" الأول وفشله، ودخول اليمن وسورية وليبيا في نفق الحروب الأهلية وفشل الدولة، حتى بات هذا المصير الفوضوي في الدول الثلاث، بمثابة فزاعة استخدمت لتخويف الجماهير العربية من مخاطر الثورات والحراك السياسي، وضرورة قبولها بالأوضاع القائمة لأنها تتضمن الاستقرار بغض النظر عن الكلفة السياسية والاقتصادية.
- تراجع الحماسة الدولية والإقليمية لمحاولات التغيير في الوطن العربي، إذ تغير الموقف الأميركي من التأييد الجارف لـ "الربيع" الأول في عهد أوباما، إلى نوع من التأييد الحذر والمحسوب. ويبدو أن الظروف الصعبة التي يمر بها الاتحاد الأوروبي، بلورت موقفاً أقل تأييداً لـ "الربيع العربي" الثاني. وعموماً، هناك قلق أوروبي وأميركي تجاه ما يجري في السودان والجزائر، خشية تكرار ما حصل في سورية وليبيا واليمن. ولا يختلف الموقف العربي والإقليمي عن الموقف الدولي، علماً أن هناك أطراف عربية على مستوى الشعوب والحكومات، تتابع ما يجري في السودان والجزائر بقدر كبير من القلق والخوف على كيان الدولة ومؤسساتها في البلدين، وخوفاً من تدخل إيران وتركيا في الأوضاع الداخلية للسودان والجزائر، لاسيما في ظل وجود مصالح واستثمارات تركية في السودان. لذلك، يصح القول بأن الحماسة الشعبية العربية تجاه الانتفاضتين، لا تقارن بفيض الأمنيات الطيبة والأحلام التي سادت الشارع العربي أثناء "الربيع" الأول.
- الاختلافات بين السودان والجزائر من حيث التطور السياسي، وقوة الدولة، ودور المؤسسة العسكرية، وقوة الأحزاب وتأثير الإسلام السياسي. وتبرز هنا الدروس المستفادة من خبرة التطور السياسي في الجزائر والسودان، إذ مرت الأولى بعشرية سوداء يحرص الجميع على عدم التورط في سيناريو مقارب لها، كما أن الجيش الجزائري الذي ظهر قبل إعلان الدولة لعب، وما يزال، أدواراً حاسمة بالغة الأهمية مقارنة بالجيش السوداني. وعموماً، فإن الهوية الوطنية للجزائر واضحة وراسخة، كما أن مؤسسات الدولة فيها قوية ولديها خبرات طويلة وممتدة، وهو ما لا نجده في السودان الذي يعاني مشكلات في الهوية الوطنية وفي رسوخ مؤسسات الدولة وفاعليتها. ويشار هنا إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها السودان ووجود كثير من الحركات الانفصالية.
- مدى الإفادة من دروس "الربيع العربي" الأول، وهي كثيرة ومتعددة، ومن المؤكد أن الشعوب العربية تتعلم من تجاربها، بغض النظر عن الحصاد المر أو المتواضع الناتج عنها، وأعتقد أن الشعبين السوداني والجزائري تعلما ضرورة مواصلة التظاهر الاحتجاجي وعدم مغادرة الميادين أو التوقف عن التظاهر السلمي حتى إسقاط كل رموز النظام وعدم السماح لهم بقيادة المرحلة الانتقالية، كما تعلمتا الحذر في التعامل مع الإسلاميين، حتى لا تقع في أخطاء تعامل قوى التغيير في مصر عام 2011 مع "الإخوان المسلمين". والمفارقة أن الشعوب تعلمت دروساً مهمة من الربيع الأول، بينما لم تتعلم النخب الحاكمة في البلدين أن القبضة الحديدية والتخويف بـ"فزّاعة" ما يجري في سورية أو ليبيا، لن يمنع الشعوب من النزول إلى الشوارع والميادين طلباً للتغيير طالما أنها تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة وانتهاكاً لكرامتها. وطالما لم تنجح النخب الحاكمة في مواجهة الفساد وتحقيق إصلاح سياسي واقتصادي يحقق الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.
- مدى عمق أزمة الثقة بين قوى التغيير في الشارعين الجزائري والسوداني وبين الأحزاب القائمة والقوى السياسية التقليدية، وخصوصاً أزمة الثقة في التعامل مع القوى والأحزاب الإسلامية. إذ تفرض معطيات الواقع في البلدين القول إن للإسلاميين حضوراً تاريخياً قوياً ومؤثراً، وبالتالي لا يمكن تجاهلهم، لكن في الوقت ذاته لا بد من الحذر في التعامل معهم، ووضع قواعد ومعايير جديدة تحول دون محاولتهم أسلمة "الربيع" الثاني، مثل وضع قوانين وآليات مجتمعية للمتابعة تلزمهم فصل الدين عن الدولة والتوقف عن توظيف الدين في السياسة، علاوة على مطالبتهم بتقديم رؤية نقدية جادة لمواقفهم السابقة من نظامي البشير وبوتفليقة. وتكمن الإشكالية في أن الالتزام بهذه الشروط صعب على الإسلاميين، خاصة في السودان، حيث كانوا حلفاء ومشاركين في الحكم.
من جانب آخر، فإن الإسلاميين في البلدين تعلموا على ما يبدو من دروس "الربيع" الأول، لذلك سارعوا في السودان إلى التنصل من حكم البشير وإدانته، كما حرصوا في الجزائر على المشاركة، ولكن مع عدم تصدر المشهد أو إعلان حقيقة أهدافهم ورغبتهم في الحكم. وشكَّل توتر العلاقة بين قوى التغيير، وهي غالباً قوة مدنية، وبين القوى الإسلامية، تناقضاً واضحاً في مسار انتفاضات "الربيع" الأول، أثَّر ولا شك على فرصها في النجاح والفشل. ويبدو أن هذا التناقض والصراع بينهما سيستمر في مسار "الربيع" الثاني. لكن المثير هو وجود تناقض وصراع جديد لم يكن حاضراً في بدايات انتفاضات "الربيع" الأول، طفا على سطح الأحداث بين قوى التغيير وبين مؤسسة الجيش، التي آلت إليها الأمور بعد أن استجابت إلى الحراك الشعبي وأطاحت البشير وبوتفليقة. وأتصور أن هذا الصراع حاضر بقوة في المشهد السوداني ومؤثر في الأحداث، بينما يبدو أقل حضوراً بكثير، وغير معلن في المشهد الجزائري. وأعتقد أن أدوار هذا الصراع ومستوياته ستحسم كثيراً من الأمور في المستقبل، وأتمنى أن تنجح قوى التغيير والجيش في التوصل إلى تفاهمات تعيد الثقة بينهما، وتعترف بأدوار مشروعة لكل منهما خلال المرحلة الانتقالية.
الاختلافات والفروق السابقة، ستعلب دوراً كبيراً في صياغة مستقبل البلدين، وستحسم نصيب الانتفاضتين السودانية والجزائرية من الفشل أو الانتصار في تحقيق تحول ديموقراطي حقيقي، يقوم على الحوار والمشاركة وعدم التفرّد بالسلطة، مع الحفاظ على توازن دقيق بين متطلبات التغيير والتنمية وتحقيق الاستقرار والحفاظ على مؤسسات الدولة في البلدين. وقناعتي هي أن نجاح البلدين في الانتقال الديموقراطي المتدرج وفق هذه الشروط، سيقدم نموذجاً للنجاح تحتاج إليه المنطقة العربية لإنعاش آمال شعوبها في التغيير من دون الوقوع في الفوضى والحروب الأهلية.
* كاتب مصري. | |
|