|
|
التاريخ: أيار ٤, ٢٠١٩ |
المصدر: جريدة الشرق الأوسط |
|
تحليل سياسي: السودانيون أسقطوا بثورات شعبية كل حكوماتهم العسكرية |
رغم عشرات المحاولات الانقلابية وحركات التمرد المسلحة |
لندن: محمد أبو حسبو
استقل السودان منذ 64 عاماً، حكم خلالها الجيش 52 عاماً على ثلاث فترات (6 و16 و30 عاماً). لكن اللافت للنظر أن الأنظمة العسكرية الثلاثة سقطت بفعل ثورات شعبية، رغم عشرات المحاولات الانقلابية وحركات التمرد المسلحة، التي تعرضت لها الحكومات الثلاث، دون أن تنجح في الإطاحة بالحكم العسكري.
وفي كل مرة يسقط نظام عسكري يأتي المدنيون بنظام ديمقراطي برلماني على نمط نظام «وستمنستر» البريطاني، الذي أرساه البريطانيون في السودان، إبان حقبة استعماره. لكن كيف استطاع المدنيون إسقاط الأنظمة العسكرية ثلاث مرات (في عام 1964 و1985 والآن في 2019)؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من نبذة تاريخية قصيرة عن الطريقة، التي نشأ بها السودان الحديث في ظل الاستعمار البريطاني. فعندما غزا البريطانيون السودان عام 1899 كانت البلاد مضطربة بسبب الثورة الوطنية المسلحة (الثورة المهدية)، التي أنهت الاستعمار التركي - المصري تحت مظلة الدولة العثمانية، فقرر البريطانيون أن يبتدعوا اتفاقية غير مسبوقة في العالم الحديث، وذلك بأن جعلوا «السيادة» على السودان مشتركة بين بريطانيا والدولة العثمانية، ممثلة في مصر، رغم أن بريطانيا كانت عملياً تستعمر كلاً من مصر والسودان. لكن لاعتبارات الموازنات الدولية مع القوى الاستعمارية الأخرى في العالم، اختارت لندن مشاركة السيادة على السودان، وأطلقت على هذه الشراكة الفريدة اسم «اتفاقية الحكم الثنائي» «Condominium Agreement».
ورغم أن هذه الاتفاقية كانت مجرد إجراء دبلوماسي شكلي، لأن الحكم كان عملياً في أيدي بريطانيا وحدها، إلا أن الأيام والسنين أثبتت أن عواقبه على السودان كانت عميقة وبعيدة الأثر، إذ تطلبت اتفاقية الحكم الثنائي أن يتبع ملف السودان إلى وزارة الخارجية في لندن، بينما كانت ملفات جميع المستعمرات البريطانية الأخرى تتبع لوزارة ما كان يُعرف وقتها بوزارة «المستعمرات»، وكان الحكام والإداريون البريطانيون الذين يرسلون إلى المستعمرات يأتون من وزارة المستعمرات، حيث كان أغلبهم من العسكريين المتقاعدين، أو ما زالوا في الخدمة. لكن الأمر في السودان كان مختلفاً، إذ أرسلت لندن حكاماً وإداريين إلى الخرطوم من موظفي وزارة الخارجية البريطانية، الذين كان جلهم من خريجي جامعتي أكسفورد وكامبردج الشهيرتين، ويتمتعون بخبرات وعلوم واسعة في الإدارة المدنية ومؤسساتها. ومع مرور سنوات الاستعمار الـ57. أصبحت حكومة السودان البريطانية تفرض سياستها المغايرة لسياسة لندن التقليدية، التي كانت متبعة في بقية المستعمرات. وكان نتيجة ذلك أن قامت في السودان جمعيات أدبية وثقافية عديدة، بل حتى تنظيمات سياسية، سمح بها إداريو السودان البريطانيون. فضلاً عن المؤسسات التعليمية المتميزة، والمشاريع الاقتصادية الناجحة، والخدمة المدنية والمهنية المتطورة بمعايير ذلك الزمان.
وبطبيعة الحال، فقد صاحب كل هذه الأنشطة إرساء لقيم المؤسسات المدنية، ولو في شكلها البسيط، عبر تنظيم الجمعيات وانتخاب أعضائها ديمقراطياً، والقبول بالرأي والرأي الآخر. وقد أفضى هذا النمط الجديد في حياة السودانيين إلى قيام أحزاب سياسية كاملة الدسم، ثم برلمان وليد، أشرف على حكومة وطنية لمدة عامين لنقل الحكم من المستعمر البريطاني إلى أيدي السودانيين في مطلع عام 1956. أي قبل سنوات من الخطة التي كانت قد وضعتها لندن لمنح السودان استقلاله.
ورغم الإدارة المتميزة التي اتبعها حكام السودان البريطانيون، فإن كثيراً من المؤرخين يعزون مشاكل السودان العديدة اللاحقة إلى حقيقة أن الحكم البريطاني ركز جل اهتمامه على مناطق الحضر، وخلق طبقة متوسطة ذات تأهيل عال. لكنه أهمل بقية القطاعات الواسعة الأخرى، التي ظلت تعيش في مجتمعات بدائية تقليدية، تغلب عليها التعاليم الدينية السلفية، بل تعيش خارج دائرة الاقتصاد النقدي الحديث.
ومع مرور السنين شعر بعض أبناء تلك المجتمعات المهمشة بالفارق الكبير، بينهم وبين الطبقة المتوسطة، فلجأوا إلى الانضمام إلى الجيش كوسيلة للحصول على بعض النفوذ، أو ربما الوصول إلى السلطة. ومن جانبها، استغلت الأحزاب العقائدية (كالشيوعيين والإخوان المسلمين)، التي لم تكن الأنظمة الديمقراطية تأتي بهم إلى مقاعد البرلمان، طموحات هؤلاء العسكريين، ودبروا معهم انقلابات عسكرية عبر تكوين تنظيمات سرية دخل الجيش للانقضاض على الحكومات الديمقراطية. غير أن الإرث التاريخي المحب لحكم المؤسسات المدنية، والمتدرب على أساليبها، ويعرف طرق تنظيمها ومكامن قوتها، نجح في كل مرة في استعادة السلطة من أيدي العسكريين، خصوصا أن الطبقة المتوسطة هي التي تعتمد عليها إدارة الدولة حتى عندما يكون الحكم في أيدي العسكر.
وفي كل مرة أسقط المدنيون حكماً عسكرياً، عبر ثورات شعبية، كانوا يكتسبون خبرة إضافية في أساليب تنظيم نقاباتهم وأساليب إدارة عصيانهم المدني. |
|