| | التاريخ: أيار ٣, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | من دروس الموجة الأولى لـ"الربيع العربي" - وليد محمود عبد الناصر | شهدت الشهور الأخيرة، انبعاث وتطور ما يمكن اعتباره موجة جديدة من موجات ما جرى العرف على تسميته إعلامياً منذ نهايات العام 2010 بـ "الربيع العربي"، في كل من الجزائر والسودان على سبيل التحديد. وتناول الكثير من الكتاب والمحللين بقدر لا بأس به من الإسهاب، دلالات الأحداث في البلدين العربيين والدوافع المحلية، سواء السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم الثقافية، لاندلاع الانتفاضات أو "الثورات" في الحالتين، إضافة إلى حدود التحركات الشعبية والفئات المشمولة بها وحجمها ومداها، وغير ذلك من اعتبارات لها بالضرورة قيمتها ووزنها وثقلها في تحليل كل من الحالتين. إلا أن ما سوف أسعى إلى تناوله في هذا المقام، هو جانب واحد ذو طابع مقارن في تلك الأحداث الأخيرة، وأعني هنا كيفية استفادة الشعوب العربية التي شملتها تلك الموجة الأخيرة من "الربيع العربي"، بخاصة في حالتي الجزائر والسودان، من دروس الماضي القريب أو البعيد، ولكن على الأخص دروس ما جرى العرف على اعتباره "الموجة الأولى"، وذلك في ضوء الاختلافات الواضحة والتغييرات التي لا تخطئها العين بين مسار ثورات وانتفاضات نهايات 2010 وطوال العام 2011، وبين مسارات ما جرى في موجات لاحقة دارت على مدار السنوات الثمانية الماضية في بلدان عربية أخرى. الدرس الأهم، يتعلق بما أطلق عليه تعبير "الثورات أو الانتفاضات غير المكتملة أو المنقوصة"، وما أرمي إليه هنا تحديداً، هو أن الموجة الأولى لـ"الربيع العربي" التي اتسمت بأن الشعوب العربية، التي تطورت شعاراتها على مدار تتابع مراحل تلك الثورات والانتفاضات وتطورها، لتصل إلى التبلور في نهاية المطاف في رفع شعار المطالبة بتغيير النظام القائم برمته وانتزاع جذوره والدعوة إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة تضمن العدالة والنزاهة والشفافية والمساواة في المواطنة أمام القانون، اكتفت في واقع الأمر بالتوقف عند مرحلة إعلان التنحي من جانب رأس السلطة التنفيذية فقط. وبدا وكأنها اعتبرت ذلك بمثابة الانتصار النهائي والأخير لها، ورأت فيه تحقيقاً لمطالبها كممثلة لإرادة الشعوب، وانصرفت إلى ممارسة حياتها اليومية المعتادة قبل انطلاق الثورات والانتفاضات وكأن المهمة أُنجزت بشكل شامل وبنجاح.
إلا أن الأحداث والتطورات اللاحقة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن انسحاب الجموع الغفيرة التي قامت بالثورة وصاحبة المصلحة الأصلية والأساسية فيها من الشوارع والميادين، في ظل عدم تمكن تلك القوى الشعبية أو ممثليها أو المعبرين عنها من تولي زمام السلطة، سواء بشكل جزئي أم كامل، أو حتى عدم وجود ضمانات بإقامة إدارة انتقالية تضم شخصيات قريبة فكرياً في تصوراتها ورؤيتها للمستقبل من هذه القوى الشعبية، أتاح الفرصة أمام قوى وأطراف أخرى، بل أمام أكثر من طرف في بعض الحالات، متحالفين أو متصارعين في ما بينهم، على السعي إلى ركوب الموجة الثورية وتوجيه الأمور في اتجاهات أخرى لا تتسق بالضرورة مع دوافع الثورة وأسبابها ومحركاتها في المقام الأول، وذلك كله تم في ظل ادعاء هذه القوى أن الفضل الرئيس يعود إليها في قيام الثورة وقيادتها ونجاحها في المقام الأول، أو في ظل ادعاء الأطراف الأخرى أنها هي التي قامت وتقوم بالحفاظ علي الثورة وحمايتها من الأخطار المحدقة بها من كل جانب، من الداخل ومن الخارج على حد سواء.
للسبب المذكور في الفقرة السابقة، أميل إلى أن أطلق على ثورات الموجة الأولى من "الربيع العربي"، التي جرت في نهايات العام 2010 وخلال العام 2011، خاصة الحالتين التونسية والمصرية، تعبير "الثورات غير المكتملة" أو "الثورات المنقوصة"، وهو وجه قصور يبدو، على الأقل حتى اللحظة الراهنة، أن الثورات والانتفاضات الأخيرة، خاصة في الجزائر والسودان، استوعبته تماماً ووضعته في الحسبان ونصب أعينها، وأخذت في الاعتبار ضرورة تجنب تكرار ارتكاب هذا الخطأ الاستراتيجي والكارثي في آن معاً، كما بدا أن تنحي رأس السلطة التنفيذية تحت ضغط موقف الشعب والقوات المسلحة، كما في الحالة الجزائرية، أو عزل القوات المسلحة له وتحديد إقامته تحت ضغط موقف الشعب، كما في الحالة السودانية، لا يقنع الجموع الغفيرة من الشعب في الحالتين، بأن عليها إنهاء ثورتها والانصراف إلى ممارسة حياتها اليومية المعتادة.
تلك الجموع الشعبية، باتت في الحالات الأخيرة على درجة متقدمة من الوعي، ما جعلها تدرك ألّا مناص من الاستمرار حتى النهاية في ثورتها أو انتفاضتها، إلى أن تتحقق مجمل مطالبها، أو على الأقل حتى يتم تلبية الحد الأدنى الضروري والأساسي منها، الذي لا يمكن التراجع من الناحية البنيوية عنه في فترات جزر تالية مستقبلاً، هي من طبيعة الثورات. ويتمثل هذا الحد الأدنى الضروري كما نراه ماثلاً أمام أعيننا في الحالات الأخيرة، ضمن أمور أخرى عديدة، في الكشف عما كان يجري من ممارسات فاسدة ومحاكمة المسؤولين عنها والمتسببين فيها من جهة، وكذلك استكمال تفكيك بنية المؤسسات المسؤولة عما عانته تلك الشعوب من مظالم متنوعة على مدى عقود وسنوات، وصولاً إلى إعادة بناء الدولة وبنيتها التشريعية والقانونية والمؤسسية، على أسس جديدة تختلف كيفاً ونوعاً بدرجة جذرية عمّا كان موجوداً وقائماً وقت اندلاع تلك الثورات والانتفاضات.
ومن المبكر بالطبع التنبؤ بما ستؤول إليه الموجة الحالية من موجات "الربيع العربي"، بالقدر نفسه الذي من المبكر فيه التنبؤ الآن بمآل البلدان التي شهدت موجات سابقة لهذا "الربيع العربي". كما أن من الصعب الرهان، على الأقل على المدى القصير أو المتوسط، بما ستؤول إليه الحالة في هذه البلدان أو تلك، خاصة إذا استوعبنا جيداً دروس الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، بل وحتى الدروس المستقاة من ثورات وانتفاضات سابقة شهدتها المنطقة العربية ذاتها، خلال عقود، بل قرون سبقت، والتي تؤدي بنا جميعها إلى النتيجة نفسها، ألا وهي أن للثورات، كما للبشر، دورات حياة، وحالات مدّ وجزر، يتعين أن تمر بها بشكل حتمي، مع الإقرار بوجود تباينات بالتأكيد بين كل حالة وأخرى ووجود خصوصيات لكل حالة، حتى تصل إلى منتهاها. كما أن هذا "المنتهى" هو في حد ذاته قابل للنقض والارتداد أو الانقضاض عليه، إذا أدى في نهاية الأمر إلى إيجاد أوضاع أكثر سوءاً وظلماً لجموع الشعب عما كان سائداً وقت اندلاع تلك الثورات في صورتها الأولى.
إلا أن مجرد تعلم الشعوب العربية من ممارسات سابقة تضمنت سوء تقدير في حساب النتائج أو عدم التعامل مع معطيات المواقف في شكل سليم، أو عدم قراءة المتغيرات المحيطة على النحو المطلوب، سواء من جانب الشعب العربي ذاته الذي مرّ بتجربة في السابق، أم من جانب شعب عربي آخر، هو تطور إيجابي في حد ذاته في سياق تقدم حركة التاريخ، وبغض النظر عن النتائج الراهنة أو الآنية، وذلك عملاً بالقاعدة الشهيرة المعمول بها في دوائر التشريع والقانون والتي تقول بـ "بذل العناية وليس ضمان الغاية"، كما أنه دليل حي على قدرة العقل الجمعي للشعوب على إدراك الماضي والإفادة من التاريخ، سواء القريب أم البعيد، بهدف تحويل دروس الإخفاق فيه إلى طاقة إيجابية واكتساب قوة دفع ذات توجه بناء، يتحرك نحو الأمام في الحاضر والمستقبل، مستلهماً حقيقة الاستمرارية والتواصل لكل من الحاضر والمستقبل مع الماضي وعدم إمكان الانفصال عنه كلياً، سواء بإرادة أم قرار.
وفي الختام، لا يمكننا إلا أن نذكر أن الدرس المستفاد حتى الآن، من جانب ثورات وانتفاضات آخر موجة من "الربيع العربي"، والخاص بتجنب ظاهرة "الثورات المنقوصة أو غير المكتملة"، وإن كنا نراه أساسياً وهاماً، فإنه ليس بالتأكيد الدرس الوحيد الذي يمكن أن تتعلمه الشعوب العربية وتستلهمه من دروس وتجارب وأخطاء الموجات السابقة لـ "الربيع العربي"، خاصة الموجة الأولى التي جرت في نهايات العام 2010 وعلى مدار العام 2011، بل هناك بالضرورة دروس أخرى، ربما يتعين أيضاً تناولها في مواضع ومناسبات أخرى عندما تتوافر الفرص لذلك.
* كاتب مصري. | |
|