| | التاريخ: نيسان ١٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | الدولة ليست الممثل الشرعي الوحيد للمواطنين - ميلان عبيد | الدولة بما هي مفهوم مستقر عند فقهاء القانون الدستوري العام تعرّف على انها مجموعة متجانسة من الافراد، تعيش في صورة مستمرة في اقليم معين، وتخضع لسلطة عامة منظمة. وهذه السلطة تنشأ في التمايز بين الحكام والمحكومين في الدولة. وفي اطار الاخيرة تتكون القواعد المتعلقة بتولي السلطة وممارستها وانتقالها الدستوري. ان روابط المجتمع تتنوع بحسب معايير واهداف، وتبعا لهذه المعايير تتعايش جماعات من انماط مختلفة تربطها اللغة والعادات والتقاليد والثقافة والدين، وانها في محصلة ذلك تلتقي في ظل الرابطة القانونية، اي الدولة، كشكل من اشكال الجماعة، وهي الجماعة السياسية. ان تراث الاسس الفلسفية والمنطقية لنشأة الدول وصيرورتها تجسدت عبر تاريخ طويل لحركة الفكر الانساني ونضالاته، وهو تألف وتطور على شكل افكار ومبادئ ونظريات وجدل متواصل موضوعه "فكرة الدولة" وماهية الاسس المنطقية والفلسفية الباعثة لها وهي بين عناصر نشأتها واركانها.
وقد واكب ذلك الجهد الفكري لنضال الشعوب في سبيل استرجاع حقوقها المكتسبة التي كانت من خصائص شخصيتها الطبيعية من ايدي الحكام، وقد كانت لهم مطلقة ثم اصبحت مقيدة الى ان تحولت عند الدولة الديموقراطية "الحديثة" وظيفة يشغلها موظف لحين معين على ان تبقى السلطة حصرا في الدولة "المؤسسة". وانها عليا، واصلية وانها متفردة ومانعة، وانها متميزة وراعية وانها اخيرا احادية المرجعية، لا ينازعها في سلطانها احد. وان الحاكم يمارس سلطانه بصفته موظفا يلي السلطة العليا. لا باعتبار ذلك امتيازا شخصيا له او لعصبيته او طائفته او لعقد الائتلاف الطوائفي من ورائه ولكن بمعنى ان يقوم بوظيفته تحت مظلة المؤسسات وبذا يصبح استمرار السلطة مؤمنا ما دامت "الدولة المؤسسة" قائمة.
اذا كان مختصر ما تقدم يوضح تطور مفهوم الدولة المدنية الحديثة في نظريات النظم السياسية، وفقهاء العلم الدستوري والقوانين. ابتداء من روح الشرائع عند مونتسكيو الى وظيفة الدولة الراعية المطلقة عند هيغل، الى العقد الاجتماعي الضامن لمركز المؤسسة بين الفرد والمجتمع عند روسو وانطباق هذا المفهوم عمليا عند بعض مما نعرفه عند الدول ذات النظام الديموقراطي، فان هذا المفهوم "النموذج" اذا صح التعبير تعتريه تناقضات عميقة، وشديدة الوضوح في الصيغة اللبنانية القائمة على اعمدة الطوائف والمذاهب. بدل وحدة الشعب، واسس العدالة والحرية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اللون او الجنس او الدين او الطائفة على وجه الخصوص. (*) وعليه فإن فارق الحال يتأتى من اختلاف المفاهيم واختلاطها، وان المفهوم اللبناني الخاص له تداعياته المختلفة. وهي في نظرنا تجسد الى حد بعيد جوهر المشكلة المزمنة للأزمة التي تواجه اللبنانيين وعندما تبطل "الدولة المؤسسة" ان تكون النقطة المركزية الجامعة، ومركز الجذب السياسي والقانوني لحركة الانسان، فمن الطبيعي عندئذ ان يؤدي اختلاف العقائد والمبادئ الى اختلاف المواقف والسلوك ومن ثم تباين الالتزامات وتناقض الواجبات، مما ينعكس على مواقف التجمعات المكونة للمجتمع اللبناني غير الموحد في الشكل المتقدم، ويصبح الانفجار الموسمي في "لبنان الازمة" من سمات الحركة السياسية امرا واقعا، كلما تجمعت اسبابه واحتقنت العقول والقلوب من حوله بغاز العصبيات "الاعتقادية" لتنفجر وتنشر الرعب والموت والدمار وتكون "الدولة المؤسسة" ابرز ضحايا "العقد الطوائفي" وتفلت العصبية. ذلك هو بالضرورة النتيجة المنطقية لنزاع العصبيات واشكالية حركتها في محاذاة الدولة، وحولها وفي داخلها حتى ليحار المواطن وتختلط عنده المفاهيم والصور، ويتأكد بالصوت والصورة، ان قوة العقد الطائفي في السالب والموجب، تتخطى قدرة الدولة المؤسسة على الاستمرار والصمود في وجه غضب العصبية وجموحها، والمحصلة، تعميق ازدواجية الولاء المركب عند المواطن، وانحدار مفاهيم المؤسسة والدولة والسلطة والقانون. وتسقط عندها مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على مبادئ الحرية والعدل والمساواة امام القانون وتخبو القيم الاخلاقية التي ناضل الفكر الانساني من اجلها وتضمحل، ويسقط الانسان الفرد باعتباره الغاية النهائية التي تصير اليها الاشياء وتتأسس الاوطان والكيانات والنظم الدستورية والقوانين التي تحرس حقوق الانسان كما تخيلها وتحدث عنها سبينوزا وروسو وكل فقهاء العلم الدستوري وفلاسفة علم الاجتماع على انها تعاقدية تخضع للسيادة الشعبية ولحقوق الانسان. لقد استبدل اللبنانيون عقد "الدولة المؤسسة" وهو زبدة النضال والفكر الانساني بالعقد الطائفي الذي هو النظام، والذي هو آلية عمله والذي هو الشركة الطوائفية في آلية السلطة والذي يحد من فاعلية الدولة ومؤسساتها وعملها.
بهذا المعنى فان النظام الطوائفي ينتج خصوصية لها حقوق الدولة الحقيقية، ولها قوة اختراق النص وتعطيله والتحايل على فكرة المؤسسات ولها قوة اجبار الفرد على التنازل عن انتمائه للمؤسسة الدولة، لمصلحة العقد الطوائفي، ومن داخله شخصية الطائفة، ولها قوة استعارة الدولة واستعمالها والتستر وراءها والتقنع بها، والتجمل بمزاياها، لينشئ، اي النظام، دولته السرية على هامش "الدولة المؤسسة" الام، ولها قوة التلاعب بتعريف المواطنية من مواطن لبناني الى مواطن ماروني، وسني وشيعي ودرزي. اي مخالفة القاعدة الذهبية ان كل المواطنين متساوون امام القانون وسيادته. اللبنانيون وحدهم تجرأوا على هذا الامر واختلفوا عن النظم السائدة في الدول الديموقراطية، واستبدلوا عقد الدولة المؤسسة وفلسفتها وعقد روسو ومونتسكيو وهيغل وسبينوزا وانتقلوا من ثقافة المؤسسات الى ثقافة العقد الطوائفي الذي يتربع فوق السلطات والدولة والقوانين الملزمة والاصول المرعية. بهذا المعنى فان "السوس" الطوائفي ينخر الدولة والمؤسسات وقد عمل منذ بداية تأسيس الدولة والكيان على تفريغ النص لمصلحة العرف الطوائفي، وخصوصية الشركة الطوائفية هي صاحبة السلطة الخفية على التشريع والنص. وهي التي تقف وراء كل المفردات السياسية من نوع "الاستنساب السياسي" او مقتضيات "الوفاق الوطني" او "تماسك السلم الاهلي" او "ضرورات الاجماع" او حساسية "المساكنة الطائفية". هكذا نظام طوائفي لا يعفي اللبنانيين، ولا المجتمع اللبناني من الصراع الاهلي، وهو قنبلة موقوتة دائمة الحضور "مفكوكة الصاعق" عنقودية الانتشار لا تنتج الا الخروج على كل مألوف والتجرؤ على كل الكبائر، التي طاولت اسس الدولة الام المستباحة من التجمعات فاستباحت مرافقها واحتلت مؤسساتها ونهبت "بيت المال" وموارده. واحتكمت الى النزاع المسلح في معالجة تناقضاتها السياسية والوطنية وسحبت اعترافها بوجود الدولة المركزية الام كممثل شرعي ووحيد لكل المواطنين المتواجدين داخل هذا الكيان. ان قبائل الطوائف بسلوكها هذا عبرت بصدق وواقعية عن حقيقتها، انها تجمعات بدائية وعصبية، لم ترتقِ بعد الى مستوى الانصهار الحضاري المتوحد في الرقي والتقدم في ظل الحرية والعدالة والمساواة كمبادئ اساسية ومبررات موضوعية لنشأة الدول. وهي رعت سابقا وترعى الآن من جديد نمو ثقافة العقد الطوائفي على حساب ثقافة الدولة والمؤسسات عند المواطن في توزيع السلطات وآلية عملها وطبيعة العمل الاداري الذي يسيّر عجلة هذه الآلة الحضارية المتقدمة.
وعليه، فان الابتداع غير المألوف في حياتنا هو الاستحضار الدائم للنزاع بين العقد الطوائفي، وعقد الدولة والمؤسسات. وتكشف لنا بعد صراع مرير على امتداد عشرين عاما اتى على كل ما هو محل اعتزاز في حياتنا الوطنية والدينية والسياسية. ان الدولة والقانون والمؤسسة عناصر مسلوبة الارادة من العقد الطوائفي العرفي المتعارف عليه والمتفق على بنوده واحقيته. وان كل ما هو بحوزة هذا العقد هو من حق الدولة المؤسسة وامتيازها وما هو الآن مصدر قوة ومناعة للنظام الطوائفي يجب ان يكون من خصائص الدولة ومناعتها وحركتها داخل المجتمع. وان النظام الطوائفي هو الذي يرعى الفساد السلطوي والاداري والقضائي والسياسي والمالي والتربوي والثقافة السرية للطوائف، وانه الجزء المعطل لعمل الدولة وصلاحياتها وحركتها، وانه ايضا يعمق ازدواجية الانتماء الفردي للطوائف على حساب الدولة والمجتمع والمواطنية.
ان كل ما هو متواجد الآن بين ايدي الطوائف يجب ان يعود الى صاحبه الشرعي ليستوي ميزان العقل والارادة والمواطنية وليعود لبنان من جديد مكانا نليق به ونخرج من دوامة الحروب الاهلية المعلنة والكامنة كفاتورة باهظة التكاليف للخروج من مشروع الدولة والمؤسسات.
¶ هذا النص بحلقتيه السبت المنصرم واليوم ُشِر المرة الأولى في 4-9-1998.
عضو المجلس الوطني للإعلام | |
|