| | التاريخ: نيسان ١٣, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | 13 نيسان: تفاهم الحائرين وحيرة المتفاهمين - ميلان عبيد | في 12 نيسان 1975 نام اللبنانيون وهم لا يدرون ان صباح الثالث عشر من الشهر نفسه ستنطلق الرصاصة الاولى لصراع سوف يستمر عشرين عاما كاملة. وقيل الكثير في هذه الحرب التاريخية: من قائل ان الخارج اطلق النار على لبنان. ومن قائل ان اللبنانيين ضاقوا ذرعا بالاشتراكات المرضية التي داهمت وطنهم. ولكن القلة تأكدوا من ان انهيار جهاز المناعة المكتسبة في حياتنا، كان بين الاسباب الرئيسة لاستشراء الصراع وضراوته. جهاز المناعة كان الدولة. والمسؤول عن انهيارها كان النظام الطوائفي. والوطن كان ضحية هذه الحالة المركبة. كلما ذكر الكيان اللبناني والنظام الطوائفي قفز الى ذهني المثل الآتي: ان الحالة التي رافقت نشأتهما تشبه الى حد بعيد توأمين ولدا ملتصقين احدهما بالآخر محكومين بالعيش معا، وبالموت معا، ولكن الافظع والأدهى، أن يموت أحدهما، ويهترئ فوق ظهر الآخر. هذا يعني بداية ثلاثة امور جوهرية:
الاول: ان الواحد منهما ملازم لنشأة الاخر وان هناك خصوصية وعلاقة عضوية تحكم كلتا الحالين وقد حدث ذلك على امتداد نصف قرن او اكثر.
الثاني: ان علينا ان نعتاد، وقد اعتدنا فعلا اعتبار هذه الوضعية التاريخية امرا حتمياً يشبه القضاء والقدر، وانه ترتيب جيو سياسي، طوائفي وكياني وميثاقي وايديولوجي وتاليا فان علينا ان نتوقع، ونتقبل كل مفاعيل هذه المعادلة، وما ينتج عنها او ما يترتب عليها. كذلك علينا الا نقترب من تفكيك هذا الرمز السحري حتى لا تنهار فوق رؤوسنا كل هذه التركة بما ومن عليها.
الثالث: ان هذه العلاقة الخاصة بين البندين (اي الوطن والنظام) لا تلد الا التناقض المنسجم، والخلاف المتفق عليه والنزاع المدروس، والاقتتال المبرمج، وتاليا العودة دائما الى الينابيع التي منها نشأ الصراع والتي عليها ستبنى من جديد العلاقة الخاصة جدا المعترف بها من كل الاطراف المكونة للكيان والنظام معا.
ولذلك يبدو ان الامر محكوم بمعادلة: اما نقض الحاضر وهذا يعني تفكيك البدايات الاولى المكونة للعلاقة الثنائية بين الكيان والنظام، او تفكيك النظام واخضاعه لضرورات العصر والتطور وهذا يعني تفكيك الوطن تحت طائلة التلاعب بخصائصه الطوائفية. والا ما معنى ان يلتهب الوطن بصراع مرير على امتداد عشرين عاما وتتكسر اجزاؤه وترتسم حول مصيره اسئلة وعلامات استفهام كبيرة. ثم يعود النظام ليتربع فوق صدر الوطن بعدما مدّه ببعض من عناصر بقائه وشحنه بالقوة لتلتئم قواه وتعيد بناء الوطن من جديد تحت مظلة النظام وخاصيته. والسؤال هو: * من اين تنبع جاذبية القوة والاستمرار هذه التي يولدها هذا النظام الطوائفي؟ * ومن اين تولد هذه المعادلة الزئبقية التي تظلل حياتنا منذ اكثر من نصف قرن؟ من ان نظامنا الطوائفي هو الشيطان الرجيم، وهو الملاك الرحيم في الوقت نفسه؟! * من اين تولدت هذه العلاقة المصيرية ان "لا معه، ولا بدونه"، وهو باعتراف اهله، وابنائه، واقربائه وانسبائه وكل من يلوذ به انه... مصدر... الشر. وهو كنز الكنوز في آن واحد. الهارب منه: الى الفراغ واليأس، والداخل اليه: الى المكاسب والارتزاق. النزاع حوله يرفع او يخفض منسوب الشركة، والنزاع فيه يورد الى التهلكة والانقسام. الانقلاب عليه طريق الى المجهول، وانفجار في خصائص التكوين، والتعايش معه مزيد من الاضمحلال والتحلل. بين حاكم فيه يعلو المؤسسات ومسؤول يشارك في الريع. وسياسي يكسب في المعارضة والموالاة. واداري يمتص ماء الحياة من روح المؤسسة. وطائفي حر الحركة في جميع الاتجاهات. ونخبوي يتسكع على ابواب هؤلاء جميعا. ومرجعيات طائفية تمتطي الجميع، وتدير دفة السفينة المثقوبة وسط عواصف الاهدأ بينها يطيح اوطانا وليس فقط انظمة. الاضداد تتعايش معه في ساحة واحدة. حريات ولا ديموقراطية اجتماعية او سياسية. جياع ولا ثورة. نخب سياسية مأزومة بدون مشروع. حياة سياسية ولا احزاب. توحيد وانقسام، تماسك من فوق وتفلت من تحت. طوائف تلعن نظامها وتقتتل للمحافظة على اركانه وتستعين بالتجارب الديموقراطية العريقة في الغرب للدلالة على رداءته. ومع ذلك، فان النظام الطوائفي منها "حبل السرة" من الوليد، تتغذى منه، وتقتات من تركته وتنمو وهي تعلم انه لو كان هذا النظام ومؤسساته على صورة الديموقراطيات الغربية ومثالها لما كان لوجودها ضرورة ولا حاجة. الكل يصرخ في وجه هذا النظام الطوائفي: اعداؤه واصدقاؤه. الخارج من جحيمه، والداخل الى جنته. المتحفظ عليه، وكذلك اهله، والذين في منزلة بين المنزلتين. ومن عجائب هذا النظام التي رافقت تكوينه، انه كان يبتكر دائما طرقا ووسائل للخروج من مأزقه. ولعل الظاهرة الابرز في خصائصه ان الجياع عبر التاريخ كانوا يقفون في ساحة واحدة ويسلكون سبيلا واحدا ويلتفون حول مصلحة مشتركة الا في ظل هذا النظام. كل طائفة فيه ترهن جياعها داخل احزمة بؤس وعلى حدود مشتركة مع الطوائف الاخرى. يتبادل عبرها المحرومون والجياع من كل الطوائف الهواجس والمعاناة لينتج النظام من جديد عناصر بقائه وديمومته. ودائما يعلو النظام الطائفي فوق الوطن وابنائه وتاليا فوق الدولة والمؤسسات. ان هذه العلاقة الخاصة المكتسبة والتاريخية منذ نشأة الكيان اللبناني، كانت الدولة والمؤسسات موضوع بحثنا، بين ابرز ضحاياها. الى جانب انهيار فكرة الدولة اصلا من حياتنا العامة. فالتعود على غياب الدولة كالتعود على حضورها، كلاهما يأخذ طريقه الى عقلنا ويتراكم، وعندما تغيب المؤسسات يخال المرء انها لم تقم اصلا ولا كانت مؤسسة في العقل العام ولا في الخاص. كذلك الامر عندما تحضر الدولة في جوهر المؤسسة وتاليا في القوانين المرعية، في النظم والتدابير والممارسة، تبدو وكأنها كانت منذ البدء في حياتنا.
كلا الامرين ادمان وتعوّد وطريقة واسلوب وتأثير ولا نشعر بثقل المؤسسات وفاعليتها الا عندما يصبح القانون مبررا اساسيا لوجود الدولة. الدولة الموحدة تنهار وكذلك الدولة الاتحادية، ومثلها الدولة الامبراطورية والممالك والامارات. في اساس انهيار كل منها بذور الفردية الطاغية، والهجرة عن المؤسسة، والمغادرة عن المصالح العامة الى الخاصة، وفي اساس بنائها على اختلافها، شرط انتماء المواطن الى خصائص المؤسسة وقوانينها. حضرت الدولة بـ"الجملة" وغابت بـ"المفرق" ومع استمرار الغياب شيئا فشيئا على امتداد الصراع كان المواطن يصاب بدهشة لهذا السقوط المتوالي، ومعه تخبو صورة الدولة في عقله وفي شؤونه ومصالحه. ويوم كان المواطن يتمرد خلال الصراع الطويل على وسائل الميليشيات الطائفية المسلحة في تقليص مساحة الدولة والمؤسسات في حياتنا، كانت قوى الامر الواقع، وهي "دويلات الظل" تصر على تعويد المواطن على بناء مؤسسات الحرب ومصالحها. وهذه المرة كما عبر التاريخ، يأخذ التعود والإدمان على غياب الدولة طريقه الى عقل "المواطن" وتوجهه النفسي والسياسي والاجتماعي والاداري. ان مظاهر نشوء مصالح ومؤسسات الحرب على اختلافها لا تحصى ولا تعد، على امتداد كل مناطق النفوذ والسيطرة، خصوصا ان الميليشيات المسلحة حاولت في ما مضى واستطاعت ان تسهل على المواطن امر غياب الدولة عن رقعة الوطن بوسائل الترغيب والترهيب الكثيرة: مرة باختصار عناء الوصول الى المكاسب والمصالح، ومرة بالامساك بالقرار السياسي والحضور المسلح في شرايين الحياة السياسية والاقتصادية والتنموية الذاتية، وربط مصالح المواطنين بمؤسسات مسخ تنمو كالفطر على سطح مؤسسات الدولة المهجرة او الغائبة. ولم يكن العنصر الخارجي من الصراع بأقل اصرارا على ترحيل الدولة. ومحو فكرة المؤسسة من عقل اللبنانيين. ومع الوقت بدأ التصحر يضرب مساحات واسعة من تواجد الدولة في الذهن العام، وتتوسع رقعة مؤسسات البداوة والتخلف والشذوذ السياسي والطوائفي ومعهما يبتعد المواطن اللبناني عن روح الدولة والمؤسسات والقوانين المدنية والانظمة والاعراف والاصول. والقول الان اننا في مرحلة نشوء فكرة الدولة ليس مبالغة في تأزيم مستقبل الوطن. وفي المقابل لا يكفي القول ان هناك دولة وسلطات ومؤسسات وقوانين الممكن والمستطاع. ولكن ما توافر حتى الآن من عودة روح الدولة، قد يصبح هو الآخر "نسيا منسيا" اذا انعدم وجود العقل الوطني الذي يقود الى تثبيت فكرة الدولة في الذهن العام. يمكن ان يكون هناك سلطات ومؤسسات، ودوائر مالية واقتصادية، وان لا يكون هناك ظل للدولة والمؤسسات في حياة المواطن. قد يتعايش الامران ويتكيفان في ساحة واحدة. كما يمكن ان تتواجد كل اشكال الدولة والمؤسسات، بالصوت والصورة وان لا ينصاع المواطن لوجود الدولة وحركتها في الوقت نفسه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: لا يمكن ان تتواجد الدولة في الامن، وألا تتواجد في الادارة والسياسة والخدمات ومصالح اللبنانيين ولقمة عيشهم، ولا ان تقيم سلطات دون ان تعيد التوازن اليها، وتمنع فساد الاداء السلطوي، وترفعه عن كاهل شعب تتقاسمه مؤسسات اصغر من الوطن ومن روح التسوية المبرمة في ربوعه بما يوحي بأن فساد الحياة السياسية يسير جنبا الى جنب مع نشوء الدولة والمؤسسات. ان هذه النظرة القاتمة للحالة الذاتية والموضوعية، لا تعني بأي حال اننا نتوقع بفعل السحر، عودة الدولة ركنا اساسيا في نظام حياتنا العام والخاص. ولكننا لا نعتقد وهما، بأن مخلفات الصراع على امتداد سنوات، مترافقة مع ولادة انظمة الميليشيات المسلحة، يمكن ان تعيد الوهج الى فكرة الدولة بسرعة البرق. في تجربة جمهورية 1943، وفي ظل دولتها ومؤسساتها، كان الوطن في خدمة الطوائف، والطوائف في خدمة الطبقة السياسية التي كانت تبني وطنا ممزقا وعبئا تفجر في وجه ابنائه والمقيمين على ارضه. اذا فهمنا ما الذي قادنا الى الصراع الكبير، نفهم ما الذي سيقودنا الى استتباب الدولة والمؤسسات من جديد. واذا علمنا ما الذي اخرجنا من الدولة والمؤسسات، الى التسيب الكامل، نعلم ما الذي يعيدنا من جديد الى روحها وجوهرها. ما نشهده الآن يوحي بأن النظام الطوائفي يعيد بناء الدولة والمؤسسات على صورته ومثاله: الثقل فيه للشركة، و"العيش المشترك"، و"المسكنة الطائفية". الوطن فيه موظف عند المسؤول، والمسؤول موظف عند طائفة، والطوائف تعبث باللبنانيين من جديد، وتؤسس لهم صراعا آخر مريرا من عصور ما قبل نشوء فكرة الدولة والمجتمع. في ظل بناء كهذا، لا تضمحل دول ومؤسسات فحسب، وانما تضيع اوطان دامت عبر التاريخ، وتنهار امم كبرت عبره، اذا لم يكن هناك رجال يضعون المؤسسة فوق العقل الفردي للانسان، ونزاعاته ومصالحه. ولا شيء غير الدولة المدنية والمؤسسة يكبح الشر والتكالب والمطامح والمصالح التي اخذت في طريقها على امتداد سنوات ما بنته الايدي الخيرة عبر التاريخ. ان هزيمة فكرة الدولة، والسقوط المتوالي لمعالمها في العام والخاص اي في آلية السلطات العامة، وفي التعاقد بين الفرد والمؤسسة، كانتا النتيجة الطبيعية والمنطقية لتداعيات النزاع بين العقد الطائفي، وعقد الدولة. وقد ادى ذلك قبل الصراعات الاهلية الدامية وخلالها وبعدها الى حال ربط نزاع، اي بمعنى ما، اشتباك متواصل بين الانصياع للدولة ومفاعيلها، ومقتضيات الالتزام العرفي بالعقد الذي ابرمته الطوائف المكونة للكيان والنظام بينها. يصف العلامة ابن خلدون هذه الطبيعة السياسية للجماعات المكونة للاوطان وحركتها داخل المجتمع، بأن السمة الاساسية لشخصيتها، المجتمعية، هي التقلب والتفلت الدائم من الانتظام العام والانصياع لمفهوم المؤسسة ويقول بأن "الاوطان الكثيرة القبائل والعصبيات، قلّ ان تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والاهواء وان وراء كل رأي منها وهوى، عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة، والخروج في كل وقت، وان كانت ذات عصبية. لان كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة". والمقصود في قول العلامة ابن خلدون، ان العصبية تختزن اكتفاء ذاتيا ينمو في معزل عن الجماعات والعصبيات الاخرى. ويتشكل في داخلها مفهوم مستقل عن وظيفة الالتزام والاشتراك والتنظيم. وهي تاليا لا تعطي الدولة لانها تظن ان هذه الدولة في الاصل وفي النهاية مدينة باستمرارها لقدرة العصبية وفاعليتها. كذلك فان الامر يتفاقم اذا كانت الدولة محصلة ائتلاف عصبيات منضوية تحت لواء الدولة وهي بدورها حالة معرضة للسقوط اذا انتفت شروط الائتلاف بين العصبيات المؤتلفة بسبب من ان الفرد ينتمي الى العصبية ويتعاقد مع الدولة على طريقة ان العقد شريعة المتعاقدين"، وصالح للتجديد او النقض اذا ما تعارضت مصالح العصبية ومقتضيات الدولة. وبهذا المفهوم لبواعث النزاع بين الدولة والعصبية فان الدولة اللبنانية كمؤسسة عصرية ومتقدمة، لم تنهزم امام العقد الطائفي بوتيرة متسارعة متناسقة. ذلك ان العد التنازلي لسقوطها بدأ منذ اللحظة التي ابرمت فيها الطوائف عقدها الميثاقي الذي غطى كل خريطة الكيان السياسية. ففي البدايات الاولى لنشأة الكيان اللبناني كان يبدو للوهلة الاولى ان حدود الدولة والمؤسسات تبدأ عند الحدود التي ينتهي عندها العقد الطائفي. ولكن الطوائف عندما ابرمت عقدها الميثاقي كانت تتوقع وتعمل على ان تكون الدولة والمؤسسات واجهة دستورية وقانونية، وعصرية، لعقد عرفي له في معظم الاحيان قوة النص. على رأس شروطه ان تكون الدولة ضعيفة خاضعة لتسلط مندوبي الشركة الطوائفية وهيمنتها.
من هنا كانت الدولة اللبنانية نموذجا فريدا وخاصا لا مثيل له في تاريخ النظم السياسية المعاصرة. على اساس انها في لبنان الوجه الآخر لـ"العقد الطائفي" وتحت اشرافه. وانفردت الصيغة اللبنانية فأقامت دولة للطوائف مكان دولة الشعب (اي المواطنين) التي يساهم كل فرد فيها بكل قواه، تحت سلطة الادارة العامة، ليلتقي على شكل هيئة الجزء منها لا يتجزأ عن الكل كما يقول روسو.
عضو المجلس الوطني للإعلام | |
|