| | التاريخ: نيسان ١٢, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | المجتمع اللبناني يَتَعَلْمَن: لا يخدعنّكم المشهد الطائفي | الأب صلاح أبوجوده اليسوعي
"عندما تُبتر حريّةُ الإنسان، تلك الحريّة التي خلقها الله والمتّصلة به، فما يُبتر في الواقع هو ما يُعلن اللهُ به عن نفسه بطريقةٍ غير مباشرة". (كارل ياسبرس)
يُبيِّن قمعُ إثارة موضوع الزواج المدنيّ الاختياريّ، قمعٌ يتكرّر المرّة تلو المرّة في المجتمع اللبنانيّ من دون أيّ نقاشٍ جديّ، أحدَ أقسى المآزق التي يعيشها الفكر الدينيّ الرسميّ، بل وأحد أوجه بؤسه. فمواقف العديد من المرجعيّات الدينيّة الفوريّة والعفويّة من تلك المسألة، تجاوزت موضوع تحديد علاقة الـمُطالب بالزواج المدنيّ بجماعته الإيمانيّة، هل يبقى عضوًا فيها أم لا- أي ما يمثّل وظيفة تلك المرجعيّات الطبيعيّة - لتعتدي على نحوٍ خطير على حريّته: يمنع عليه الزواج المدنيّ! ولكن لتلك المواقف عواقب أخرى. فإنّها تكشف، في آنٍ واحد، عن شدّة أدلجة الدّين، أي تحوّله إلى مجموعة عقائد وأفكار جامدة تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة على الإنسان والمجتمع والعالم؛ وإخضاعه المتزايد للحالة الطائفيّة وأنصارها من السياسيّين، إذ يصبح حضوره الإيديولوجيّ أداة ثمينة يستخدمها هؤلاء في الترويج للطائفيّة بصفتها المدخل الوحيد لفهم لبنان واللبنانيّين؛ إضافة إلى العجز المتنامي في مواكبة تطوّر المجتمع السريع بتأثير من العولمة الحديثة.
وفي الواقع، يدلّ تكرار المطالبة بإقرار الزواج المدنيّ على حالة تفرض نفسها بشكل تصاعديّ على المجتمع اللبنانيّ، لا يمكن القضاء عليها ولا رجعة فيها، وهي على صلة وطيدة بروح العصر التي تشدّد على حريّة الإنسان، وبالتحديد حريّة ضميره، وتضع دور الدّين التقليديّ في حياة الإنسان موضع تساؤل. وهذا بحدّ ذاته التحدّي الذي يواجهه الممسكون بتفسير الدّين: هل سيستمرّون في التعامل مع روح العصر من خلال تكرار تلقين تعاليم "أبويّة - سلطويّة" تتجاوزها الشبيبة بخطى ثابتة بالرغم من استمرار الحالة الطائفيّة، أم سيتجاوزون عتبة الإيديولوجيا ليقيموا ورشات عمل لاهوتيّة وأخلاقيّة تخدم حريّة الإنسان عوض قمعها؟ إنّ مخزون الدّين الثقافيّ متنوّع وهائل. فإذا كانت الظروف التاريخيّة قد أدّت إلى تفضيل عناصر ثقافيّة معيّنة وكبت عناصر أخرى، وإذا كانت عمليّة الأدلجة تميل إلى إضفاء الصفة المطلقة على بعض تفاسير تلك العناصر والتحجّر فيها، فإنّ إحياء رسالة الدّين على نحوٍ يخاطب تطوّر المجتمع وذهنيّة الشبيبة ممكن من خلال انفتاح جريء، في الوقت عينه، على تنوّع المخزون الدينيّ الثقافيّ وتساؤلات الزمن المعاصر وقيمه، وفي طليعتها حريّة الضمير. ولمزيد من التوضيح، يمكن القول إنّ إحدى المفارقات التي نعيشها في لبنان، ازدياد حركة "تعلمن" الحياة المجتمعيّة، ولا سيّما في أوساط الشبيبة، مع استمرار الحالة الطائفيّة كما سلف القول، بل وتفاقمها بسبب منحى العمل السياسيّ. ليس المقصود بتلك الحركة بُعدها السياسيّ، أي فصل الدّين عن الدولة، بل ميل العديد من الشبّان والشابات إلى العودة إلى ضميرهم الفرديّ باستقلاليّة عن تعاليم المرجعيّة الدينيّة والتقاليد والعادات الشائعة، لاتّخاذ خياراتهم المتّصلة بحياتهم الشخصيّة. ولا شكّ في أنّ المطالبة بالزواج المدنيّ نتيجة مباشرة لحركة التعلمن هذه التي تشمل نتائجها أيضًا قطاعات كثيرة في المجتمع. ففي الوقت الذي تحتفظ فيه مؤسّسات تربويّة وصحيّة واجتماعيّة كثيرة برموزها الدينيّة، فإنّها، لجهة اختيار سياساتها واتّخاذ قراراتها، لا تخضع أبدًا للمرجعيّة الدينيّة وتعاليمها. بالطبع، يخلق هذا التطوّر واقعًا ملتبسًا. فحركة التعلمن هذه لم تسلك بعدُ طريق العقلنة اللاطائفيّة لتنظيم المجتمع وطرق العمل الاجتماعيّ والسياسيّ، ولكن من الثابت أنّها تضعف دور التعاليم الدينيّة التقليديّة ودور مرجعيّاتها، وتعزّز الجوّ الملائم لنموّ الحريّة الشخصيّة وإن ضمن إطار طائفيّ.
لذا، يجب ألاّ تحجب الحالة الطائفيّة السائدة النظر عن حقيقة حركة تَعَلْمُن المجتمع التي لا يمكن إيقافها والتي يمكن أن تكون فرصة لنهضة الدّين نفسه. فالسؤال الذي يُطرح إزاء هذا الواقع يهمّ بالدرجة الأولى المرجعيّة الدينيّة: هل ستستمرّ هذه المرجعيّة بالتموضع في مواقع دفاعيّة تجاه حركة التعلمن، الأمر الذي لن ينتج عنه إلاّ تراجع البُعد الروحيّ والإنسانيّ لرسالة الدّين نفسه، وتنامي أدلجته وتوظيفه الطائفيّ؛ أم ستساهم في تنمية حريّة الضمير وتنقيتها من رواسب الطائفيّة؟
لا شكّ في أنّ حركة التعلمن تسبّب قلقًا لدى المرجعيّة الدينيّة، إذ تبشّر بانحلال المجتمع التقليديّ وروابطه الدينيّة المعهودة. ولكنّ السعي لمنع الإنسان من تكييف نفسه مع روح العصر التي تُعلي من شأن كرامته الشخصيّة ومنزلة حريّة ضميره، ليست حماية، لا للإنسان ولا للدّين. بل، على نقيض ذلك، سيؤدّي التطوّر في نهاية الأمر إلى وضع يصبح فيه قبول التعليم الدينيّ التقليديّ شبه مستحيل. وخبرات الكنيسة الكاثوليكيّة في الغرب، طوال القرون التي سبقت انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1962، برهنت عن عبث محاولات صدّ مسار الحداثة، ولا سيّما من خلال استخدام "الحرم الكنسيّ". فخطاب الكنيسة نفسه إزاء حدث الحداثة ومكتسباتها بات تدريجيًّا غير مقبول ومن ثمّ غير مفهوم. وكان لا بدّ من تحديثه، ليس من خلال تحديث المصطلحات اللاهوتيّة فحسب، بل من خلال مصالحة مكتسبات الحداثة القيميّة مصالحةً لاهوتيّة وراعويّة فعليّة، وفي طليعتها الديموقراطيّة وحقوق الإنسان.
إذا نظرنا عن كسب إلى الواقع اللبنانيّ، نجد أنّ الدّين يخسر عمليًّا على جبهتَين: جبهة اللبنانيّ "المتعلمن" الذي يكوّن قناعاته الشخصيّة ويتّخذ قراراته تبعًا لضميره من دون رجوعه إلى أيّ سلطة خارجيّة تُملي عليه ما يجب القيام به؛ وجبهة الطائفيّة والمقصود بها العمل الاجتماعيّ والسياسيّ من منطلقات طائفيّة بمعزلٍ عن المرجعيّة الدينيّة التي إمّا أن تُلحق بتلك الجبهة أو تُهمّش عنها. ولا يبدو أنّ ثمّة مخرجًا لهذا المأزق إلاّ في التخلّي عن نهج أدلجة الدّين وتحريماته الرجعيّة والحتميّة، ومصالحة حريّة الضمير والدفاع عنها بلا مساومة ولا هوادة. والدّين في الواقع، أيًّا كان، لا يمكن أن يضطلع بدوره السامي في حياة الإنسان، إلاّ إذا سلّم أوّلاً بحريّة ضمير الإنسان. ومن هذه الزاوية، لا عجب أن يكون احترام حريّة الإنسان في اعتناق الإيمان، أيًّا كان، مقدّسًا ومحوريًّا في كلّ دين. فإذا قمع الدّينُ الحريّة الشخصيّة أو ساوم عليها، ماذا يبقى من رسالته؟ وإذا حصر تلك الحريّة بحريّة الدّين التي نتغنّى بها في لبنان ونفى حريّة الضمير، ألا يكون قد ساوم على رسالته؟ فحريّة الدّين كما يُجاهَر بها، لا تسمح بالتفكير في مسألة الزواج أو في أيّ مسألة من مسائل الأحوال الشخصيّة من دون العودة إلى المرجعيّة الدينيّة التي تمسك وحدها بالقرار، في حين أنّ حريّة الضمير تضمن للمواطن حقه في التفكير والنقاش بحريّة في مختلفة المسائل، من دون مطرقة مسلّطة على رأسه.
عندما ينتفض مفسّرو الدّين على واقع أدلجة دينهم، ويختاروا المصالحة مع جوهر رسالة الدّين التي لا تنفصل عن حريّة الإنسان، يساهمون في تحرير الإنسان من كلّ قيوده، ليدخلوا معه بكلّ حريّة في نقاش يُعطي الإيمان كلّ معناه الحيّ.
قد يكون مسار التعلمن في لبنان بطيئًا بسبب الحالة الطائفيّة وأدلجة الأديان، ولكن من المؤكّد أنّه لم ولن يتوقّف. ويبقى الرجاء قائمًا بأن تلحق الأديان بركبه قبل أن يزداد الشرخ اتساعًا بينها وبين من تظنّ أنّها تخدم خيرهم.
أستاذ في جامعة القديس يوسف | |
|