| | التاريخ: نيسان ١٢, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | قراءة في بعض تاريخ «حروب العرب الباردة» - وليد محمود عبدالناصر | تحدث بعض المحللين والمراقبين، في سياق حديثهم عن القمة العربية الأخيرة التي انعقدت منذ أيام في العاصمة التونسية، عن الأمل في تجاوز الخلافات العربية الراهنة التي اعتبرها هؤلاء أنها «تمثل حالة استثنائية في التاريخ العربي المعاصر». ومع اتفاق الجميع على الإعراب عن الأمل دائماً في تجاوز الخلافات العربية وتحقيق التضامن العربي لمصلحة الشعوب العربية جمعاء، فإن ما يلفت النظر في مقولة هؤلاء المحللين والمراقبين هو اعتبار الخلافات العربية - العربية هو الاستثناء مقابل اعتبار التوافق والتضامن العربي هو القاعدة في التاريخ العربي المعاصر، وهي مقولة تحتاج إلى وقفة لتمحيصها بشكل موضوعي والنظر فيها وتقييمها بتأنٍ وتعمقٍ وعبر منهج واقعي وعلمي في آن واحد.
والتاريخ يؤكد في المقابل أن أي قراءة عقلانية في العلاقات العربية - العربية في الزمن المعاصر، أي منذ نشأة النظام الإقليمي العربي، مقترناً بتأسيس جامعة الدول العربية مع اقتراب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتحديداً عام 1945، باعتبارها التنظيم الإقليمي الجامع للدول والحكومات العربية الحائزة على استقلالها السياسي الرسمي في ذلك الوقت، توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن القاعدة كانت على مدار غالبية سنوات تلك العقود المنصرمة هي غلبة مشهد الخلافات، بل وأحياناً الصراعات، وبما وصل في حالات معينة إلى المواجهات العسكرية، فيما بين البلدان العربية، سواء كانت مباشرة أو بالوكالة على أرض طرف عربي ثالث، وأن الفترات الزمنية الأقل والأقصر كانت من نصيب مشهد التعاون أو التضامن أو السعي للاتحاد أو الوحدة في بعض الأحيان فيما بين البلدان العربية.
وسنستعرض هنا العقود الثلاثة الأولى بعد نشأة النظام الإقليمي العربي في عام 1945 لتمحيص ما تقدم، على أمل أن تتاح لنا الفرصة في مناسبة قادمة لاستعراض ما انقضى من عقود أربعة ونصف العقد منذ ذلك التاريخ في منتصف سبعينات القرن الـ20 وحتى اليوم.
وإذا عدنا إلى المشهد الأول ضمن مراحل هذا التاريخ العربي المعاصر، وهو الخاص بحرب فلسطين عام 1948، تجد أنه من المجمع عليه تقريباً هو أن أحد أهم أسباب هزيمة الدول العربية في تلك الحرب كان غياب التنسيق فيما بين الجيوش العربية المشاركة، وهو ما عكس انعدام وجود الرؤية المشتركة لدى الساسة العرب آنذاك إزاء هذه الحرب والأهداف المتوخاة من وراء المشاركة العربية المشتركة فيها، واستمرت الخلافات والاختلافات العربية بشأن التعامل مع نتائج هذه الحرب بعد انتهاء العمليات العسكرية، سواء فيما يتعلق بمحادثات الهدنة في رودس عام 1949، أم من جهة الموقف من التعامل مع البلدان والقوى الدولية والإقليمية غير العربية التي وقفت بجانب الطرف الآخر في تلك الحرب، إضافة إلى الخلافات بشأن كيفية التعامل مع الأراضي الفلسطينية المتبقية في الضفة الغربية لنهر الأردن وفي قطاع غزة، وكذلك التفاوت والتباين في معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين ووضعيتهم القانونية في البلدان العربية المختلفة التي لجأوا إليها.
وفي المقابل كان عاما 1955 و1956 شهدا قدراً متقدماً من التفاهمات فيما بين البلدان العربية الأساسية في النظام الإقليمي العربي، خاصة المملكة العربية السعودية ومصر وسورية، على خلفية عودة الحكم المدني لسورية مقابل تصاعد التهديدات الدولية والإقليمية لها من جهة، والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة الواقع تحت الإدارة المصرية آنذاك من جهة ثانية، والمزيد من الانفتاح السعودي على المحيط العربي من جهة ثالثة، والقرار المصري بدعم الثورة الجزائرية التي انطلقت في أول نوفمبر 1954 من جهة رابعة، ثم تتويج هذا التضامن العربي من خلال الدعم الرسمي والشعبي العربي لتصدي مصر للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي في تشرين الأول (أكتوبر) - تشرين الثاني (نوفمبر) 1956 في أعقاب قرار مصر تأميم قناة السويس في يوليو (تموز) عام 1956.
ومن جهته، سرعان ما جاء عام 1958 بالعديد من التطورات التي كانت تبشر في بدايتها بالمزيد من التضامن العربي في ضوء الوحدة الاندماجية المصرية السورية في شهر شباط (فبراير) من ذلك العام، ثم انضمام اليمن الملكية لهما في صيغة اتحادية فيما سمي «اتحاد الدول العربية»، إلا أنه في أعقاب الوحدة المصرية السورية أوجست بعض الحكومات العربية خيفة من انعكاسات تلك الوحدة عليها وعلى مصالحها، فكان من ردود الأفعال عليها إنشاء محور عراقي - أردني في ظل وقوع الدولتين آنذاك تحت الحكم الهاشمي. كما أن انتصار الثورة العراقية في تموز 1958، وإن بشر في بداياته بتقارب مصري عراقي، فإن الخلاف بين الزعيمين عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر سرعان ما أدى إلى مواجهة لم تقل حدة، أن لم تزد، عن تلك القائمة بين البلدين في زمن الملكية في العراق.
وجاء توجه القيادة المصرية نحو تبني قرارات «اشتراكية» في تموز 1961 ثم انفصال سورية وخروجها من الوحدة مع مصر في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه واستقلال الجزائر بعد أشهر من ذلك، وتحديداً في تموز 1962، ودخولها في علاقة وطيدة مع مصر الناصرية، كل ذلك أدى إلى خريطة عربية جديدة للتحالفات والخلافات، وذلك فيما أطلق عليه الكاتب وأستاذ العلوم السياسية الأميركي الشهير مالكوم كير تعبير «الحرب العربية الباردة»، وكانت نقطة البدء في انطلاق تلك «الحرب» هي الثورة اليمنية في أيلول 1962، وما أعقبها من حرب أهلية انضمت مصر للطرف الجمهوري بينما انضمت السعودية للطرف الملكي، وتجسد حول كل منهما عدد من الدول العربية، بحيث لقب بعض المحللين المجموعة المتحالفة مع مصر باعتبارها البلدان الجمهورية مقابل المجموعة الملكية الملتفة حول السعودية، بينما اعتبرها آخرون مواجهة بين البلدان العربية الثورية والتقدمية مقابل البلدان العربية المحافظة، وشهدت تلك الفترة ما سمي بـ«محادثات الوحدة الثلاثية» بين مصر وسورية والعراق، والتي لم تكلل بالنجاح.
كما أن ما تقدم لا يعني أن كل معسكر، الثوري أو المحافظ، كان متجانساً خلال تلك المرحلة من عقد الستينات من القرن الـ20، كما لا ينفي أن دولاً عربية داخل أو خارج المعسكرين دخلت في خلافات أو مواجهات منفردة مع بلدان عربية أخرى. فقد حدثت مواجهات عسكرية بين الجزائر والمغرب انحازت خلالها دول عربية لكل من الطرفين، كما أن اقتراح الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة بشأن تسوية سياسية مع إسرائيل حول القضية الفلسطينية فتح عليه الباب لسيل من الاتهامات من جانب العديد من البلدان العربية، كما أن الحساسيات المتوارثة لم تختف بشأن العلاقات الأردنية - السعودية على رغم تقارب المواقف السياسية في تلك المرحلة، كذلك لم تخل العلاقات بين مصر الناصرية وسورية البعثية من حساسيات من نوع آخر، على رغم تقارب المواقف السياسية بين البلدين آنذاك.
وجاء التضامن العربي في المحطة التالية على خلفية هزيمة عسكرية عربية كبرى في حرب حزيران (يونيو) 1967 مست بشكل مباشر مصر وسورية والأردن وأدت إلى ضياع ما كان متبقياً من أراضي فلسطين بعد حرب 1948، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، وجسدت قمة الخرطوم العربية في أيلول عودة للتضامن العربي مع الاتفاق على دعم «دول المواجهة» مع إسرائيل ماديا وسياسياً، وتخلل ذلك مصالحة مصرية - سعودية أدت إلى انتهاء الحرب في اليمن وانسحاب القوات المصرية منها، إضافة إلى مصالحات عربية - عربية أخرى جانبية وثنائية.
إلا أن هذا التضامن سرعان ما تعرض إلى هزات، من جهة بسبب انقلابات عسكرية في السودان وليبيا أتت بضباط ذوي توجهات ناصرية على الحكم، ما أدى إلى إحياء مخاوف قديمة لدي أطراف عربية من محور ثوري عربي جديد بقيادة جمال عبد الناصر، كما اندلعت اشتباكات بين المقاومة الفلسطينية، التي نشأت عام 1965 على رغم «الحرب العربية الباردة»، وبين كل من الجيش اللبناني والجيش الاردني، وإن كانت الأولى انتهت موقتاً من خلال اتفاق القاهرة عام 1969، بينما تطورت الثانية إلى أن وصلت الأزمة ذروتها في أيلول 1970، وانتهت بقمة عربية في القاهرة ووساطة مصرية ناجحة، ولكنها انتهت بوفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر. وتخلل ذلك استقلال اليمن الجنوبي من الاحتلال البريطاني ونجاح الماركسيين في السيطرة على السلطة هناك ودعمهم تمرداً مسلحاً في إقليم «ظفار» العماني، ما أوجد هواجس جدية لدي السعودية وسلطنة عمان وبقية الأطراف العربية في الخليج، المستقلة حديثاً آنذاك.
وإن كانت الفترة ما بين 1969 و1972 شهدت محاولات اتحادية ووحدوية عربية، تمثلت في «ميثاق طرابلس» بين مصر والسودان وليبيا ثم «اتحاد الجمهوريات العربية» بين مصر وسورية وليبيا وأخيراً مشروع «الوحدة الاندماجية» الذي لم يكتمل بين مصر وليبيا عام 1972، فإن محوراً مصرياً سعودياً سورياً من جديد كفل النجاح للتحضير لحرب أكتوبر 1973، والتي شهدت إحياءً للتضامن العربي، سواء من خلال الدعم المادي والسياسي والعسكري لدول المواجهة العربية أم عبر توظيف سلاح النفط للضغط على أطراف دولية بغرض تعديل مواقفها إزاء الصراع العربي الإسرائيلي في ذلك الوقت.
إلا أن هذه الحالة سرعان ما تراجعت بعد انتهاء حرب 1973 ومع بداية العملية السياسية الهادفة لتسوية ذلك الصراع والتي أعقبت انتهاء العمليات العسكرية مباشرة، وهو ما تزامن مع تصاعد الخلاف المصري السوري بعد اتفاق فك الاشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل في أيلول 1975، ولكن تمثل التطور الأهم في ذلك العام نفسه في اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وما استتبعها من حالة استقطاب بين الأطراف العربية الرئيسية حول من يدعم من على الساحة اللبنانية، التي تحولت إلى ساحة تصفية حسابات فيما بين أطراف دولية وإقليمية عدة، بما فيها أطراف عربية، وذلك على رغم قمة مصرية سورية بوساطة سعودية - كويتية عام 1976 والاتفاق العربي على إرسال قوات ردع عربية إلى لبنان كان قوامها القوات السورية، التي كانت قد دخلت لبنان بالفعل في حزيران 1976 بدعوة من الرئيس اللبناني آنذاك.
وهكذا رأينا، أنه على مدار أكثر من ثلاثة عقود، منذ نشأة النظام الإقليمي العربي عام 1945، كانت الصفة الغالبة على معظم مراحل تلك الفترة هي الخلافات، وأحياناً الصراعات، بل أحياناً المواجهات العسكرية، المباشرة أو بالوكالة، فيما بين البلدان العربية، وإن كانت فترات التضامن والتوافق العربي، مع محدوديتها النسبية، ارتبطت بأوقات الأزمات الكبرى، خاصة أنها ارتبطت في أغلبها بالمواجهات الحربية العربية - الإسرائيلية، ولكنها لم تستمر طويلاً بعد انتهاء العمليات العسكرية في تلك المواجهات. ويملي ما تقدم أن تكون البدايات الجديدة لبناء حالة تضامن عربي مبنية على أرضية مختلفة ومنطلقات جديدة تستوعب دروس الماضي وتسعى لتجنب تكرار أخطائه وسلبياته وأوجه قصوره.
* مفكر وكاتب مصري. | |
|