| | التاريخ: نيسان ٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | حرب أهلية لبنانية بين مجتَمَعَيْن كلٌٌ منهما متعدِّدُ الطوائف - جهاد الزين | سؤال: ما هو تعريف الوظيفة في القطاع العام، أي "وظيفة بالحكومة" حسب التعبير الشعبي؟
جواب: هي الوظيفة التي تقبض فيها راتبا دون أن تعمل.
هذا تعريف من الثابت أنه أصبح في الدراسات الاقتصادية التقليدية تعريفا للثقافة الشعبية في العالم الثالث كله، أي الدول المتخلفة أو الفاشلة.
أكرر: إنه تعريف للثقافة الشعبية حول الوظيفة في القطاع العام. هذا لا يعني طبعا أن كل وظيفة من هذا النوع هي الراتب من دون عمل.
في لبنان بلغت هذه الثقافة الشعبية ومنذ زمن طويل حد المهزلة الخطرة والمؤذية. فالحياة السياسية قائمة على فكرة التوظيف في القطاع العام. كان ذلك نمطا تاريخيا منذ تأسيس الدولة ولاسيما بعد 1943. لكن مع هذا الجيل من السياسيين الذي ظهر خلال الحرب الأهلية وتكرّس بعد اتفاق الطائف بلغت شراهة التوظيف في القطاع العام حدودا غير مسبوقة.
ها نحن إذن، تبعا للرقم الأخير المتداول أمام 325 إلى 335 ألف موظف في القطاع العام من مختلف الأسلاك والمؤسسات العامة والبلديات.
في المبدأ شعب من أربعة ملايين مقيم لماذا يحتاج إلى "شعب" من 325 ألف شخص، أي إلى مليون أو مليون ومئتي ألف شخص إذا احتسبنا عائلاتهم ( فضربنا، من جدول الضرب، الموظف الواحد بأربعة: زوجة وولدين بالإضافة إليه، وهذا قد يكون معدلا أدنى من الواقع!).
إذن ربع الشعب اللبناني، وربما ثلثه، بات يعيش في و من القطاع العام. مليون شخص من المفترض أنهم "يديرون" ثلاثة ملايين وفي الواقع وتدريجيا بات هذا المليون عبئاً على جيوب الثلاثة ملايين الآخرين وإنتاجيتهم من حيث الضرائب المتزايدة والديون المتراكمة على الدولة مع كلفة من الموازنة العامة بلغت 40 بالمائة للرواتب ومستتبعاتها وحدها. ناهيك طبعا عن اللاإنتاجية كخسارة للدخل الوطني بكل المعاني.
هذه الطبقة السياسية الجشعة والتي ابتذلت الزبائنية في القطاع العام باستسهال وضيق أفق وعدم مسؤولية، أوصلتنا إلى حرب أهلية من نوع جديد، حرب غير معترَف بها ولكنها قائمة منذ سنوات: هي الحرب بين "مجتمع" القطاع العام و"مجتمع" القطاع الخاص. أقصد هنا مجتمع الموظفين. لقد صار تعريف الموظف في القطاع الخاص والذي لا يقبض راتبه أحيانا رغم قيامه بالعمل المطلوب هو أن يدفع راتب "جاره" الموظف في القطاع العام الذي غالبا لا يعمل كفايةً، إذا عمل، ولا أحد يحاسبه ولا أحد يستطيع أن يوقف راتبه.
لذلك موضوع القطاع العام خلق جمهورا ضخماً ونخباً واسعة مرتبطة بالطبقة السياسية كما لم يحدث من قبل. ولذلك أيضاً النظام السياسي أقوى من أي وقت سابق، وهذا التضخيم الاستثنائي للقطاع العام يوصل الدولة، مع عوامل النهب الأخرى، إلى حافة الانهيار. لكن معادلة النظام القوي - الدولة التافهة باتت معادلة مكرّسة. فهذه الطبقة السياسية، يجب الاعتراف، تُوسِّع توزيعَ الثروة ولو الآتية من المديونية والمحسوبية والمجازفة بمالية الدولة وربما النظام المصرفي، لا سمح العليّ القدير، وهو هنا ليس الله الواحد الأوحد بل دولٌ كبرى لا مصلحة لها الآن بانهيارنا لأسباب مختلفة.
ليس أوقح من هذه الطبقة من حيث أن الوقاحة تعني عدم المسؤولية: تصوّر أن مؤتمرا دوليا أوصى بوقف التوظيف، وإذ بهؤلاء السياسيين يُدخلون على القطاع العام خلال أسابيع وأشهر قليلة عشرة آلاف شخص دفعة واحدة ويتقاسمونهم إسما إسما وطائفة طائفة وحزبا حزبا، الجميع من الأساسيين بلا استثناء تقاسموا كالسابق وبدقة عالية في التوزيع الزبائني.(أكرر بلا استثناء والأرقام بالأسماء التابعة لكل فريق موجودة في سجلات دقيقة) ويريدون مكافحة العجز والفساد. عشرة آلاف شخص وحدهم يستطيعون إدارة دولة صغيرة.
تخطّى لبنان مصر في نسبة عاملي القطاع العام إلى العدد الإجمالي للسكان. ومصر رغم كل شيء دولة تقليد قطاع عام موروث عن العهد الناصري بالمعنى السوفياتي رغم كل التحولات. قال اللواء أبو بكر الجندي، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر العام الماضي 2018، "إن نسبة الموظفين إلى المواطنين فى مصر بلغت موظفا لكل 14 مواطنا، وفي المغرب موظف لكل 88 مواطنا وفي فرنسا والدول الأوروبية موظف لكل 140 مواطنا".
عام 2015 أعلن الدكتور طارق الحصري، مستشار وزير التخطيط المصري، أن عدد العاملين في الدولة يبلغ 6.36 مليون موظف، يتقاضون 207 مليارات جنيه، بما يعادل 26% من مصروفات الموازنة. في مصر عدد السكان بين خمسة وتسعين ومائة مليون أي أيضا نسبة التوظيف في القطاع العام الأرجح أن تكون قد أصبحت أقل من لبنان! ( 335 ألفا على أربعة ملايين قياسا بـ6.36 على مائة مليون).
لا أنسى كيف أخبرنا محافظ القاهرة في مؤتمر للبنك الدولي في القاهرة في أوائل سنوات عقد الألفين أن عدد عمال التنظيفات (أي نقل الزبالة) في محافظة القاهرة وحدها، يبلغ يومها 35 ألف شخص، وهي ليست كل القاهرة الكبرى التي تضم محافظة الجيزة.
كذلك تخطى لبنان حتى فلسطين (حدود 1967)، حيث كانت نظرية ياسر عرفات و"فتح" بعد أوسلو أن العنصر الأهم في تأكيد السيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد اتفاق أوسلو المجيد هو التوظيف الكثيف في أجهزة السلطة الوطنية بما يحقق توسع الأجهزة في وجه الاحتلال الإسرائيلي ووضع مسؤولية تمويل القطاع العام على المجتمع الدولي مما يعني دعم الفلسطينيين الموجودين في الداخل... وهذه سياسة ضاغطة على العرب وأكثر على الغرب لا زالت ناجحة إلى الآن رغم الزبائنية الهائلة التي سادت ويسجلها مريد البرغوثي في كتابه "رأيت رام الله" بشكل مبكر (1997) وطريف ومأساوي إذ يتحدث عن تكدّس المدراء العامين في أحد المكاتب وكلهم يعطون أوامر بجلب القهوة لحاجب واحد. الحاجب هو من سكان الداخل بينما المدراء العامون أتوا من الدياسبورا (ومن بيروت!) مع (الراحل) ياسر عرفات.
عدد الموظفين في السلطة الفلسطينية بلغ 155,930 الف موظف مدني وعسكر في نهاية عام 2016 حسب أرقام وزارة المالية في السلطة الوطنية، زاد اليوم طبعا لكن الأرجح لم يزد كثيرا بسبب ضغط التمويل الدولي. قياسا بعدد السكان البالغ نحو 4.8 مليون نسمة فى الضفة والقطاع عام 2017. إذن أقل من لبنان، كنسبة قطاع عام، بحدود النصف تقريبا في فلسطين المغلقة والمحتلة والتي لا مداخيل كبيرة لها. هكذا مقابل العدو في فلسطين وهو الاحتلال الإسرائيلي يصبح "العدو" في لبنان، بالنسبة للطبقة السياسية هو دافع الضرائب والرسوم من الطبقة الوسطى! صحيح أن ذلك يشمل موظفي القطاع العام وهم متضررون ككل الطبقة الوسطى وذوي الدخل الأدنى من ازدياد الضرائب ولكن هذه الطبقة السياسية عمليا تأخذ منهم بيد و"تعطيهم" بيد أخرى بينما تأخذ فقط من الثلاثة أرباع أو الثلثين من موظفي القطاع الخاص الذين هم غير مستفيدين من زبائنية القطاع العام. هذا المجتمع من الموظفين هو العدو الذي يُستهدَف تمويلياً، بينما بكل وقاحة وصفاقة يجري ترتيب إعفاءات لأكبر الشركات في البلد، لا لأنها قطاع خاص بل لأنها جزء من ملكيات ونفوذ وعائدات الطبقة السياسية. طبعا هذا التعميم لا يشمل الموظفين الكفوئين والملتزمين بأداء وظائفهم في أجهزة الدولة. لكن هيهات نستطيع التمييز في هذا المهرجان التوظيفي الفالت حتى الآن.
في فرنسا رقم موظفي القطاع العام مرتفع، 5,64 مليون موظف نهاية 2014 بينما عدد السكان 67,19 مليوناً (2019) وكذلك في ألمانيا 4,9 مليون موظف على عدد سكان من 82 مليون شخص بأرقام 2018.لكن التقييم هنا ليس رقميا، رغم أن النسبة باتت أقل من لبنان، وإنما في اللامقارنة في الفعالية والإنتاجية بين القطاع العام عندنا والقطاع العام في البلدين الكبيرين.
يتحدّث بعض الوزراء اللبنانيين الجدد، غير المنغمسين كأشخاص حتى الآن، عيّنتهم الجهات المنغمسة والمؤسِّسة في الانغماس الفسادي والهدري، يتحدثون، وعن صواب عن وجود نقص فادح بالخبراء والموظفين في بعض الأجهزة الرسمية. هذا المعطى ينقل المسألة المتعلقة بتضخم القطاع العام إلى درجة من التعقيد بل العبثية حتى.
قطاع متضخم جدا وناقصٌ بشريا في الوقت نفسه. ذروة المهزلة المأساة. | |
|