| | التاريخ: آذار ٢٩, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | الحوار الوطني اللبناني والدروس الراهنة - وليد مبارك | يصبح الحوار الوطني، في الأوقات التي يشوبها الغموض والاضطراب، أداة مهمة لسدِّ الفجوة، وتعويض عجز المؤسسات الحكومية في إيجاد حلول مقبولة للمشكلات الأساسـية المتعلقة باستقرار النظم السـياسـية واستمراريتها.
وقد أظهرت هذه الدراسة نقاط القوة والضعف في عملية الحوار في لبنان، وكيف كان لبنان يحاول التعامل مع التحديات التي يواجهها. كما جسَّدت اللقاءات المتواصلة للمشاركين في هيئة الحوار الوطني أهمية التعامل مع القضايا التي تطرأ على الساحة، إلى جانب التوصل إلى توافق في الآراء حول استراتيجية دفاعية للبنان. ويمثل إعلان بعبدا، والإطار الخاص بالدفاع الاستراتيجي الذي اقترحه الرئيس ميشال سليمان، وثيقتين مهمتين تهدفان إلى التعامل مع مصادر التهديد للبنان، سواء من الداخل أو الخارج؛ من أجل ضمان حماية أمن لبنان. وليس الهدف التخلص من تهديد سلاح الجماعات المسلحة في لبنان ونزعه فقط، بل إيجاد حل عملي من شأنه أن يعطي اليد العليا للحكومة اللبنانية في إدارة أمن البلاد، وتحرير الأراضـي اللبنانية المتبقية التي تحتلها إسـرائيل. وتُظهر الحقائق على الأرض أن قرار مجلس الأمن رقم (1701) لعام 2006، الذي سمح بإعادة نشـر الجيش اللبناني في الجنوب، وزيادة عدد قواته بنحو 10 آلاف جندي، قد أوجد ظروفاً سلمية مستمرة على الحدود اللبنانية - الإسـرائيلية منذ حرب عام 2006.
لقد خلقت هذه العوامل ظروفاً للردع المتبادل بين إسـرائيل وحزب الله؛ حيث لن تهاجم إسـرائيل، ولن يُعطى حزب الله ذريعة للقيام بهجوم، ومنذ نهاية حرب 2006 لم يقم حزب الله بأي هجمات على إسـرائيل، وبالتالي حافظ على قوة ردع نفسـية مهمة ضد إسـرائيل. إن هذا الردع يشكل قيمة تُضاف إلى الدفاع الاستراتيجي، ويجب أن يدعم المجالات الأخرى، ولاسـيما الديبلوماسـية، للحكومة اللبنانية لتحرير الأراضـي التي تحتلها إسـرائيل.
ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار إعلان بعبدا أداة ديبلوماسـية في سبيل الوصول إلى استراتيجية دفاعية وطنية للبنان. في حين أن الإعلان ليس محايداً فيما يتعلق بالتهديد الإسـرائيلي؛ فهو محايد من خلال سـياسة الحياد الإيجابي، التي تعفي لبنان من الأخطار الأخرى القائمة، أو المتصاعدة. وبالإضافة إلى المبادئ، أو العناصـر الثابتة، التي اقترحها الرئيس سليمان؛ فإن إطار الدفاع الاستراتيجي، وإعلان بعبدا، يعدان بمنزلة خريطة طريق لحماية لبنان من الخطر المحدق اليوم وفي المستقبل القريب.
ويتطلب تطبيق خريطة الطريق إجماعاً بين المشاركين على الحوار. وبالقدر الذي يتفق فيه المشاركون على إطار استراتيجية دفاعية للبنان؛ فإن ذلك سـيسمح للحكومة بأن تكون لها سـيطرة فعلية على أراضـيها، وبالتالي ضمان حماية لبنان. ومع ذلك؛ فإن تحقيق هذا الشـرط يبدو سهلاً من ناحية نظرية، ولكنه غاية في الصعوبة من الناحية الفعلية. ولطالما كان سلاح حزب الله يمثل مسألة مثيرة للانقسام ومتفجِّرة على طاولة الحوار، في حين يتجاوز الخلاف حول هذه المسألة قدرات المشاركين في الحوار، ويخضع لاعتبارات إقليمية ودولية.
وقد زادت هذه الاعتبارات، وخاصة الحرب الأهلية التي لا تزال مستمرة في سوريا، والتي وضعت الأغلبية السنية ضد الحكومة السورية - وهي حكومة تسـيطر عليها بشكل أساسـي الأقلية العلوية، وتحظى بدعم من إيران وروسـيا - من حدَّة الصـراع الطائفي في لبنان بين السنة والشـيعة؛ ما أجبر كبار القادة اللبنانيين، وأعضاء هيئة الحوار، على إعادة ترتيب أولويات مناقشاتهم، والتعامل مع تداعيات الصـراع السوري تبعاً لذلك. وتشكل سـياسة الانفصال عن سوريا، التي وضعها إعلان بعبدا، جزءاً مهماً من هذه السـياسة.
وقبل تدخل حزب الله في سوريا، في أواخر عام 2011، عمل النظام السـياسـي اللبناني على تطبيق هذه السـياسة. ومع ذلك؛ فإن الإبقاء على هذه السـياسة قائمة في المستقبل سـيعتمد على الأرجح على رغبة الأطراف اللبنانية في التوقف عن التدخل في الشؤون السورية. ويجب أن تفهم هذه الأطراف أن مناصـرة أحد الأطراف في الصـراع السوري، بما في ذلك التدخل العسكري، تخلق مزيداً من الفوضـى بالفعل في لبنان، الذي يعاني الفوضـى في الأصل. ويجب أن تكون التجربة التاريخية قد علَّمت هذه الأحزاب بأن التورط في مصالح خارجية من شأنه أن يعود بالأذى عليها، وبالتالي على لبنان، وأن إقحام نفسها في الصـراعات الخارجية لن يحسِّن من موقعها على الخريطة السـياسـية. وفي غياب حكومة فاعلة ينبغي أن يكون الحوار الوطني هو الملاذ المناسب لحل النزاعات، والتوصل إلى توافق في الآراء بشأن تنفيذ جميع القضايا العالقة في جدول أعمال الحوار قبل أن يفوت الأوان. ولسوء الحظ؛ فإن الصـراع المتفاقم في سوريا لم يساعد على إيجاد التوافق المأمول، بل أدى إلى مزيد من التفتت الإقليمي للأحزاب اللبنانية. ولكن هذا التفتت، وعلى النقيض من التوقعات العامة، لم يؤدِّ إلى مزيد من النزاعات داخل لبنان. غير أن مجرد الانخراط في الصـراع [السوري] له من النتائج السلبية ما يتجاوز الإيجابي منها بكثير.
فبالإضافة إلى الدعم الخارجي، وخاصة من مجموعة الدعم الدولية للبنان، التي أنشأها الأمين العام للأمم المتحدة السابق، بان كي - مون، في سبتمبر 2013 للحفاظ على الاستقرار في لبنان، تمكنت الأطراف اللبنانية من إدارة خلافاتها للوصول إلى الحد الأدنى من التفاهم حول كيفية تجنب الصـراع داخل لبنان، وحمايته من الخطر الخارجي. ويظهر ذلك في استئناف الحوار منذ عام 2015 على الصعيدين المتعدد الأطراف والثنائي على حد سواء. وعلاوة على ذلك؛ قد يكون انتخاب رئيس جديد للبنان خطوة في الاتجاه الصحيح.
وقد كانت إدارة الخلافات اللبنانية تتم بطريقة لطالما كان يشوبها الغموض. ولا يزال الجدل قائماً حول تبني استراتيجية الدفاع الوطني للبنان مقرونة بسـياسة الحياد الإيجابي، والابتعاد عن الصـراع الخارجي؛ ما لم تتحقق ظروف سلام حقيقية في المنطقة، خاصة في سوريا. إن التوصل إلى توافق في الآراء حول هذين البندين في المستقبل من خلال الحوار أمر حاسم بالنسبة إلى لبنان؛ لأن من شأنه أن يعمل على تمكين الحكومة، وتقوية الأمن الداخلي، وحماية لبنان من الخطر الخارجي. وفضلاً عن ذلك؛ إذا كان هناك بند واحد ملحٌّ يجب إضافته إلى أجندة الحوار الوطني حول التغير الديموقراطي في المستقبل القريب، فهو يتعلق بوضع النزوح السوري في لبنان، والانعكاسات الخطِرة المترتبة عليه منذ عام 2011. وحتى الآن، لم يكن هناك إجماع سـياسـي بين الأطراف اللبنانية حول كيفية التعامل مع هذه القضـية، خاصة فيما يتعلق بمسألة كيفية ضمان عودة آمنة للاجئين السوريين إلى أرضهم الممزقة.
الدروس المستفادة
إذا كان هناك أي دروس يمكن استخلاصها من الحوار الوطني اللبناني لدعم الحوارات الأخرى، التي قد يُصار إلى عقدها مستقبلاً، فهي من دوره كآلية لإدارة الصـراع لعزل لبنان عن الخطر الخارجي. إن شمول العملية، ووجود ثقافة الحوار وهياكل الدعم، وطبيعة الدعمين الإقليمي والدولي، هي عوامل مهمة يجب مراعاتها في تحديد فشل عملية الحوار الوطني، أو نجاحها. فيما تدل الشمولية على الشـرعية؛ وذلك من خلال تمثيل الأعضاء على طاولة الحوار لكل الشـرائح في المجتمع، ولكنها لا تدل على بُعد المشاركين، أو استقلالهم عن التأثيرات الداخلية أو الخارجية.
وتوفر ثقافة الحوار الاستمرارية والمرونة في التعامل مع الظروف المتغيرة؛ وهذا ليس شـرطاً مهماً في المجتمعات المتعددة الثقافات مثل لبنان فقط، بل هو مهم في المجتمعات المتجانسة، التي لم تشهد فن الحل الوسط، وهو سمة مهمة للديمقراطية أيضاً. وتُوفر هياكل الدعم آليات لكسـر الجمود، ولضمان استمرارية العملية؛ ومع ذلك، فإن نجاح الحوار الوطني، أو فشله، وإذا ما كان قد تمكَّن من الوصول إلى نتائج ملموسة وغير ملموسة، تُقاس من خلال اهتمام القوى الخارجية في العملية ونتائجها أيضاً. وينبغي أن تساعدنا طبيعة التفويض الممنوح لبدء عملية الحوار، وطبيعة البنود المدرجة في جدول الأعمال على فهم النتائج المتوقعة، وأنواع التأثيرات الخارجية التي ينبغي أخذها في الاعتبار. وفي لبنان كانت النتائج غير الملموسة تفوق تلك الملموسة في الحوار الوطني. وبسبب طبيعة البنود المدرَجة في جدول أعمال الحوار كان هناك إجماع من الأطراف المحلية كافة على كيفية تجنيب لبنان الصـراع، والحفاظ على أمنه واستمراريته. وبعبارة أخرى ينبغي الحكم على نجاح هيكل الحوار أو فشله بناءً على أدائه العام، وليس على القرارات الصادرة عنه بالإجماع، وكيفية التوصل إليها، أو ترجمتها إلى نتائج ملموسة فقط. النتائج الملموسة هي نتائج تراها على أرض الواقع، وهي ظاهرة من خلال الاتفاقات، أما النتائج غير الملموسة فهي أكثر صعوبة في القياس، ولربما لم يكن من الممكن توقعها أو التخطيط لها في حد ذاتها، ولكنها تظهر بشكل طبيعي من تجربة الحوار الوطني نفسه.
عضو اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، 2008-2014
خلاصة دراسة موسعة نشرت باللغة الإنكليزية وترجمت إلى العربية بعنوان "الحوار الوطني اللبناني :تجربة تتجاوز الوساطة الخارجية"، دراسات عالمية، رقم 154، شباط 2019، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. | |
|