| | التاريخ: آذار ١٩, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | الثورة السورية من منظور المطلق والنسبي - منير الخطيب | تقوم الحياة العامة المعاصرة على تأسيس راسخ لثنائية: التعدد والتنوع والاختلاف في مجالات الحياة كافة من جهة، والوحدة في مجال الدولة من جهة ثانية. تنتمي الاختلافات الطائفية والإثنية والمذهبية والايديولوجية والسياسية إلى حيزات النسبي والجزئي والحصري، فيما تنتمي مفاهيم مثل: المجال الوطني، الدستور، الدولة، الأمة، المواطنة، إلى المجال العام أو الكلي الذي يتأسس بفعل إخضاع النسبيات إلى منطق وروح المطلق.
كذلك، يتولّد الاستبداد من جراء احتلال المجال العام من قبل إرادة خاصة، نسبية، جزئية، حصرية، لا تعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع، أي تقوم بوضع نسبيّها في المشترك الاجتماعي العام، وتحاول فرضه تعسفياً وديموغجياً على أنه عام وكلي. وهنا من المناسب استحضار هذا النص للراحل إلياس مرقص: «المطلق والنسبي ليسا شيئين، انهما مفهومان وحدّان، المطلق مفهوم يحدُّ النسبي ومن ليس في روحه وفكره المطلق، يحوّل نسبيّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد».
بهذا فرض حزب البعث إرادته الخاصة، التي غلفّت بدورها إرادة جزئية مذهبية أخرى، على المجال العام، مما أفضى إلى الإطاحة بالمفاهيم الكلية وأُسس الحياة العامة والفاعلية المجتمعية، وبالتالي أدى إلى سيطرة ثنائية، «مجتمع جماهيري/سلطة توتاليتارية».
كانت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 في احدى أهم مناحيها عبارة عن انفجار تاريخي كبير في مواجهة تلك الإرادة الخاصة الغاشمة التي احتلت المجال العام، والتي كان يُستدّل عليها بمصطلح «الدولة السلطانية المحدثة»، كما عبّرت إرادة الحرية، لدى الحراك الشبابي السلمي العارم عن نزوع صميمي لكسر احتكار المجال العام من قبل تلك الإرادة الاستبدادية.
لكن إرادة الحرية تلك، التي قدّم السوريون في سبيلها ما يكفي لإسقاط كل أنظمة الاستبداد في العالم، لم تستطع الوصول إلى تشكيل مجال وطني سوري، وذلك أساساً بسبب تراكب هذا الانفجار التاريخي الكبير وغير المسبوق، مع انفجار التأخر المجتمعي وانبعاث النسبيّات والهويّات الحصرية، التي توهمت على أنها هويّات عامة وكلية، فضاع الكلي والعام، وفشل السوريون في تقديم أنفسهم للعالم الخارجي كمواطنين عموميين، إذ قدّموا أنفسهم فصائل وميليشيات ومنصّات تنتمي إلى ثقافة وعلاقات القرون الوسطى، هذا بالطبع لا ينفي صحة ما قيل عن خذلان دولي لهم وانكفاء أميركي عن قضيتهم، وكذلك صحة ما قيل عن شراسة قهرية غير مسبوقة لدى النظام والإيرانيين والروس لكسر إرادة الحرية لديهم، لكن الأكثر صحة هو فشل السوريين في تشكيل مجال وطني سوري نتيجة غياب المطلق الأخلاقي وغياب العمومية في تصورات وأفكار تشكيلات طفت على السطح وعجزت عن مخاطبة العالم، مثل: المنصة والحزب الايديولوجي والفصيل المذهبي والميليشيا المذهبية، وجميعها كائنات مخرّبة لمفاهيم وأفكار تتصل بالمجال العام، وبوحدة الاختلاف، وبالهويّة كعلاقة مع الآخر المختلف، وبالتالي كانت كائنات فلكلورية، لم تعِ أهمية الارتباط الوثيق بين المسألتين الإنسانية والوطنية، وأهمية إنتاج الذات كونياً وإنسانياً.
لقد أصبح واجباً نقد «ثورات الربيع العربي» في ضوء النتائج والمآلات التي انتهت إليها، ومع انفجار الموجة الثانية من هذه الثورات في كل من الجزائر والسودان، ومن مداخل هذا النقد تصويب العلاقة بين مفهومي المطلق والنسبي بغية وضع الحدود على أوهام وخرافات الإرادات الجزئية، كإرادوية الإسلام السياسي وكإرادوية العروبة أو الكردية السياسيتين، وكإرادوية قوى «الممانعة»، فهذه إرادات مولدة للحروب ومحكومة بعدم القدرة على تشكيل حياة عامة ذات مضمون إنساني.
إن جعل المطلق مفهوماً يحدّ النسبي، ويقيم الحد على نزواته ورغباته، يجعلنا نقتنع عقلياً ومنطقياً أن الأديان الإبراهمية الكبرى الإسلام والمسيحية واليهودية، في طبيعتها العقيدية، هي أديان محلية غير كلية وتسييسها يؤدي إلى العصبية والعنف والتطرف، وإلى نشوء «دول» عنصرية عدوانية مثل «الدولة» المذهبية في إيران و«الدولة الإسرائيلية» والتنظيمات الإسلامية المتطرفة التي هي «دول» عنصرية عدوانية بالقوة.
وكذلك أن جعل المطلق حداً يحدّ النسبي، يدفعنا إلى رفع ألوية الكليات في مواجهة النسبيات، الحرية ضد الهوية، والنقد في معارضة النقد الثوري البنّاء، والمواطن الكلي حدُّ على مفهوم المواطن الصالح، والدولة في معارضة «الدولة» الدينية، والقانون في مواجهة تحديد مصادر التشريع له، والأمة كسيرورة تشكل حية دائمة و حاكمة على الملة كجثة قذفها جوف التاريخ إلينا، والكونية في مواجهة الخصوصيات الإقوامية.
مع مرور ثمانية أعوام على انفجار إرادة الحرية لدى السوريين، بات منطقيا وأخلاقيا ومعرفيا وضروريا، نقد ودحض المبادئ الإبستمية التي غذّت الإرادات الجزئية الخاصة، التي صادرت الروح العمومية للثورة، وغلفّت استكلابها الحصري بقداسة مستمدة من آيديولوجيات دينية وغير دينية، لم يعد يفوح منها إلا روائح الموت والخراب. | |
|