| | التاريخ: آذار ١٢, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | لتنهض نخبة لبنانية تواجه أكذوبة مكافحة الفساد - حارث سليمان | تحاول الانظمة الأمنية البوليسية، في سعيها الدؤوب، لفرض خوة مالية، على رجال الاقتصاد والاعمال، ان تصور معركة مواجهة الفساد، على انها مطاردة بسيطة، بين شريف يحمل مسدسه ويطارد رجلا يحمل كيسا يحتوي مالا حراما.
بذلك يصبح كل صاحب مال او مشرف على صندوق موضع شبهة، وكل حامل مسدس او سلاح موسوما بشرف لا يليق بغيره، يفاقم هزال مسرحة معركة الفساد وتحويلها الى مسخرة، أن تكون القبضة الأمنية تلك، تعتمر لفة وعمامة تضيف الى المسدس، ليس غلاظة وهول رصاصاته فحسب، بل اطلاقية تعسفه وقداسة أحكامه.
تلك كارثة خادعة تفرغ مقارعة الفساد من مضمونها وآلياتها القانونية والقضائية، وتحولها الى تقاذف ملفات فضائحية، لا تنجز اي واحدة منها ولا تصل الى نتيجة مسلم بها، وتنزع عن العملية شموليتها الضرورية، التي تهدف لإرساء "نظام وآليات عمل دائمة وتقاليد نزاهة شاملة" تفصل الخاص عن العام، وتحفظ موارد الدولة وأملاكها، وتمنع التربح من اشغال المنصب للعام، وصرف النفوذ، وتحظر الإثراء من السلطة ومحاباة الاقارب وتنهي الزبائنية السياسية.
لذلك، لا يجب الوقوع في شباك خدع، برع في حبكها_ بداية_ الجهاز الأمني اللبناني السوري، ثم حزب الله، وهو ان الفساد هو سرقة صندوق المال ببساطة. والحقيقة ان هذا فساد بدوي لا يمارسه الا القليل. ولمزيد من الاضاءة لنرى الأمثلة التالية:
١- ٧٠٠ مليار ل.ل. من (الاغاثة) تعويضات حرب تموز. التعويضات نصفها فاسد. المستفيد مسؤولو حزب الله وأمل وليس وزارة المال.
٢- ٩٠ مليار ل.ل. لصندوق مجلس الجنوب هل صرفتها وزارة المال ام نافذو حركة امل وهل كانت مشاريع ذات جدوى اقتصادية؟ وما هي نسبة الاثراء غير المشروع منها؟
٣- ١٨٠ مليار ل.ل. ل صندوق المهجرين صرفت بادارة مقربين من وليد جنبلاط والخلل في صرفها مسؤوليته واضحة.
٤- ٣١٣٩ مليار ل.ل. سلف مؤسسة كهرباء لبنان وهذه البقرة الحلوب احتكر استيراد الفيول التي تستعمله وربحيته غير المبررة هي عائلات ابي عازار في مرحلة اولى ثم عائلات البستاني ورحمة ومعوض، على الارجح لاحقا، بعد تحويل الاستيراد من دولة الى دولة اي من الكويت والجزائر، بهدف توفير تسهيلات دفع مالية للدولة اللبناني. وللتذكير فقط فقد تم سجن الوزير شاهي برصوميان من قبل الجهاز الامني اللبناني بذريعة محاربة الفساد، متزامنا مع سعيه حصر استيراد المازوت بوزارة النفط والدولة.
ويطرح هنا سؤال بديهي؛ لماذا خصخصة قطاع النفط الرابح حلالاً ذكياً، فيما خصخصة الكهرباء الخاسرة حراماً ردياً؟، ولماذا الاحتفاظ بالكهرباء ملكاً للدولة وهي قطاع خاسر؟ بينما أرباب الفساد مع الخصخصة في النفط يأخذون أرباحه!!. ويشكل استمرار المحاولات لاستئجار بواخر كهرباء ببدل تأجيري يفوق ثمنها الفعلي فضيحة مدوية بلغت اسماع كل مسؤولي العالم!
٥- الموازنة تعدها وزارة المال وتتبناها الحكومة وليس لها صلاحية انجازها وإقرارها الا في حال واحدة، هي ان يخولها المجلس، عند تأليفها، صلاحيات اصدار مراسيم تشريعية، وهو لم يحصل الا في حكومة الحريري الاولى ومن يومها لتاريخه، لا يستطيع الوزير او الحكومة فرض ضرائب او رسوم الا باقتراح قانون يصدر عن مجلس النواب.
الخدعة الكبرى الثانية تبرئة مجلس النواب لنفسه من مسؤولية فرض الضرائب ورمي نقمة ذلك على وزارة المال وعلى السنيورة منفردا يوم كان في السلطة والانكى استمرار ذلك بعد سنوات عشر من خروجه منها تحديدا.
٦- الخدعة الكبرى الثالثة هي ان يقوم زعماء الميليشيات بتوزيع تقدمات ترضي الناس، واختلاق وظائف لمحاسيبهم، وقيام مشاريع وتلزيمات تزيد النفقات، وتفاقم عجز الموازنات المتلاحقة، ثم يتبرؤون من زيادة الدين او زيادة الضرائب، جاعلين من الدين فقط مؤامرة من جمعية المصارف والبنوك، ومن الضرائب اعتداء على المواطنين يتوجب التهرب من موجباته.
وللإنصاف والموضوعية قد يكون الاعتراض على النظام الضريبي واستسهال فرض ضرائب غير مباشرة، تطال الغني والفقير على حد سواء، والاصرار على خلق جنات ضريبية، بزعم تشجيع الاستثمار والميل الشديد لليبرالية مالية واقتصادية متمادية، والتملص من اعتماد ضريبة دخل تصاعدية تعيد توزيع الثروة، قد يكون تصويب كل هذه السياسات مطلوبا وضروريا، لكن موقعها هو في باب الاصلاح المالي والضريبي وفي اصلاح توازن قوى الانتاج ومساهماتها في تمويل جهاز الدولة ووظيفتها السيادية والاجتماعية، لكنه بأية حال ليس موضوعا يدخل في الفساد او يشكل بنداً من بنوده.
٧- في قضية النفايات التي تتفاقم منذ سنوات، من الواضح ان شركة سوكلين كانت تقدم خدمة سيئة، غالية الثمن، وتنتهك دفتر الشروط البيئية الذي على أساسه تم تكليفها بهذه المهمة، لكن وصف الحقيقة كما هي ان شركة سوكلين كانت تدفع خوة مالية لكل الاطراف السياسية، مكنتها من أن تخالف شروط العقد دون ان تخضع لاي رقابة فاعلة، والحقيقة الاخرى هي ان الوضع الحالي هو اننا امام خدمة اكثر سوءا من سوكلين، اغلى تكلفة من سوكلين، واكثر تلويثا للبيئة من سوكلين! وكل الصراخ الذي شهدناه في هذا الملف لم يكن سوى اعادة اقتسام عائد النفايات على اطراف جديدة.
٨- اما تلزيمات الجامعة اللبنانية ومرائب المطار فقصتها لا تحتاج الى تبيان، حيث تسيطر عليها في التجهيزات والصيانة والحراسة والنظافة جهة واحدة تموه نفسها، تارة بشركة كويتية، وطورا بثلاث شركات مختبرية، وثالثا بشركة مقاولات تتنقل من الانشاء والتعهدات الى الصيانة في خدمة السيدة.
٩- أما عن استباحة واردات الدولة وجماركها وضريبة القيمة المضافة Tva عليها فان خسائر الدولة واضحة لا لبس فيها، وهي تصل الى ملياري دولار سنويا بسبب اعمال التهريب التي يسيطر عليها نافذ لجنة الارتباط الامنية بين الدولة والدويلة وتستعمل المرفأ والمطار ومعبر مشتى حسن الى ميناء طرطوس، اضافة الى تهريب البيض والاجبان والحليب الطازج والفروج من سورية والذي دفع بالمزارعين في منطقة البقاع الى حافة الافلاس.
١٠- ومن ناحية اخرى يشكل ملف الكسارات والمقالع جريمة مزدوجة الابعاد، تهدد جبالنا وبيئتنا واوديتنا ومياهنا الجوفية وجودة هوائنا وتتقاسم القوى الميليشياوية بما في ذلك نافذو الدويلة وعملاء الوصاية السورية وغيرهم عوائد المقالع والكسارات وتقدر عائدات هذا القطاع بمليار دولار سنويا. فيما تستمر موجة النهب الشامل للشواطئ والاملاك البلدية والمشاعات الخاصة وانتهاك المجال العام لكل المواطنين من قبل الجماعات الطائفية ومرجعياتها.
١١- يضاف الى كل ما تقدم تشكل دولة المحاسيب وتضخم ادارة غير كفوءة وغير منتجة تضم ٣٠% من القوى العاملة اللبنانية ( اليابان ٦% وفرنسا ١٢%) وكلفتها السنوية تتعدى ٥ مليارات دولار.
١٢- وفي وقت يتآكل الداخل اللبناني سياسة وانتاجية، ويفقد اقتصاده اغلب وظائفه الاقليمية التقليدية وتنفتح فئاته السياسية على تبعية متفاقمة لرعاته في الاقليم، يتدنى تصنيف السندات السيادية للدولة اللبنانية وترتفع كلفة دين خزينته العامة بما يقارب ٥ مليارات دولار لهذه السنة مما يزيد ربحية غير مشروعة لأصحاب الرساميل وللمصارف، ويضعف القطاعات الانتاجية، ويفاقم نمو الاقتصاد الريعي اللبناني.
لكل ما تقدم يصبح دق ناقوس الخطر والتحرك من اجل العمل لورشة انقاذ حقيقية على جدول اعمالها مكافحة فساد يجري يوميا ويتفاقم، ويصبح الذهاب الى ملفات مضى عليها سنوات عشر ترفاً كيدياً، ولن يقوم بهذه المهمة اي طرف من اطراف سلطة المحاصصة القائمة بل نخب تستطيع ان تعد ملفاتها وتذهب بها الى الناس اولا والى القضاء ثانية.
هذه الطبقة السياسية (كلها) لا تريد محاربة الفساد. وقبل ان يحكي أي طرف من اطرافها عن فساد الآخرين، عليه بنفسه وبفريقه، ليعرض ممتلكات وثروات قيادته ومسؤوليه وليوضح شرعيتها ومصادر تراكمها وليقم بمصادرة غير الشرعي منها وليردها للدولة وليدعو الآخرين للتشبه به.! وليقم بالانصياع الطوعي للقوانين كل القوانين والتزام تطبيق الدستور روحاً ونصاً وليحترم حسن سير المؤسسات، وليرفع يده عن أجهزة الدولة والرقابة والقضاء وليطالبها بتحمل مسؤولياتها.
عندها فقط سنصدق جدية طرف من الاطراف، والا فهي دعوات كاذبة وظيفتها ان تجعل الفساد تهمة للأخصام وتبرئة خادعة للنفس والفريق.
أستاذ جامعي لبناني | |
|