| | التاريخ: آذار ١١, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الشروق المصرية | | دروس من الجزائر والسودان إلى لبنان - سام منسى | يتردد المتابع للحراك الشعبي المتصاعد في الجزائر والسودان في كيفية مقاربته. مشاهد الربيع العربي المدمر الذي اندلع بدءاً من مطلع العقد الأخير في أكثر من دولة أخرى لا تزال حية في الذاكرة، كما الثورات المضادة التي أجهضته، وأسفرت عنفاً لم يشهده العالم في تاريخه الحديث.
أظهر الربيع العربي مكامن الوهن في الدول التي اجتاحها، وهو وهن في الأنظمة كما الشعوب. فالأولى لم تستطع الصمود على الرغم من حديديتها واستبدادها، ومَن صمد منها فبفعل تدخلات خارجية عسكرية وسياسية. والثانية، جاء تحركها اعتباطياً خالياً من أي أهداف مستقبلية خارج إسقاط النظام، ومجموعة من الشعارات حول الحرية والديمقراطية أبعد ما تكون عن معاشها اليومي وعن ثقافتها المجتمعية.
الحصيلة الأولى للربيع العربي كانت سقوط الأنظمة والشعوب معاً كما في ليبيا واليمن ومصر بسبب الاقتتال الداخلي، وحتى تونس التي نجت من ذاك وتلك، فهي لا تزال تائهة تبحث عن نفسها.
على الرغم من ذلك حصل تغييرٌ ما تجسد في انكسار رابط الخوف الذي كان يميز علاقة معظم شعوب المنطقة بأنظمتها، واليقظة الشعبية التي نراها اليوم في الجزائر والسودان تستحق المراجعة والتفكير. يقول البعض إن ما نشهده هي الموجة الثانية من الربيع العربي الذي لم تنطفئ نيرانه بعد، وهي موجة تحاول البناء على الموجة الأولى من الحراك الشعبي السلمي، إذ يبدو أنها تعلمت من أخطاء وخطايا ما جرى في دول أخرى، يقابلها وعي للأنظمة بتقديم بعض التنازلات، وإن كانت لا تتخطى وعود الإصلاح. الثورة الشعبية تعلمت القليل والثورة المضادة تعلمت القليل.
في الجزائر، تحول بطل التحرير والدبلوماسي اللامع عبد العزيز بوتفليقة إلى طالب شغوف للسلطة لا يردعه عنها مرض، ولا عجز عن التواصل مع شعبه منذ نحو ستة أعوام، فاختزل تاريخه في صورة معلّقة على الجدران وواجهة لحكم لا يحكم فيه. حاولت السلطة في الجزائر استذكار سنوات الحرب الأهلية العجاف لترهيب الشعب وثنْيه عن مواصلة حراكه، كما حاولت قطع الوعود بإجراء انتخابات مبكرة بعد مرور عام على «الولاية الجديدة» لبوتفليقة في حال فوزه بالانتخابات. وبدلاً من أن يثني تكتيك الجزرة والعصا هذا الناس عن النزول إلى الشارع، شهدت الجزائر في أول مارس (آذار) أكبر مظاهرة احتجاجية يشهدها وطن عربي منذ اندلاع الربيع العربي قبل ثماني سنوات.
في السودان، وبعد 30 سنة من حكم قسّم السودان إلى شطرين في كل شطر حرب مستترة ونزاعات مكشوفة، يتشبث الرئيس بالسلطة إلى حد الهوس. على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، واصل السودانيون التظاهر ولم يثنهم لا الاعتقالات ولا استخدام الشرطة للرصاص الحي والمطاطي ضدهم. في أواخر شهر فبراير (شباط) الماضي، أعلن الرئيس عمر البشير حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد وحل الحكومة وعيّن في مناصب محافظي الولايات السودانية شخصيات عسكرية وأمنية. في المقابل، أجّل مشروع تعديل الدستور الذي كان سيسمح له بالترشح مرة أخرى للرئاسة عام 2020، وتخلى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، منتهجاً سياسة العصا والجزرة نفسها مع أن العصا السودانية كانت أغلظ!
مع التحفظ والحذر مما قد تؤول إليه الأحوال في كلٍّ من الجزائر والسودان، يبقى أن الحراك الشعبي أثبت فعاليته، كما ثبت أن الإدارة الفولاذية للشأن العام لم تعد قادرة على إسكات المواطنين. فإبعاد الرئيس بوتفليقة في الجزائر لا يضمن عدم بقاء التركيبة السياسية القائمة، على الرغم من أن الجيش قد يمسك بالدولة والنظام ويفرض أكثر فأكثر موقعه ودوره. وفي السودان، لم تعد تنازلات الحاكم الشكلية مقنعة للمجتمع المدني، كما أن الشعارات العتيقة والمواقف الخطابية فقدت صلاحيتها، خصوصاً بعد زيارته دمشق طلباً للمشورة في سبل إجهاض الحركات الشعبية.
من جهة أخرى، يبدو أن الموجة الثانية من الربيع العربي تعلمت شيئاً ما من أخطاء الموجة الأولى، لكنه ثبت أيضاً أن المجتمعات العربية تفتقر إلى الممارسة السياسية الحديثة، ولا تزال تعيش ضمن منظومة قيم تقليدية تتغلب فيها الانتماءات الفرعية على الانتماء الوطني، الأمر الذي يُبقي الغموض سيد الموقف لجهة ما ستُفضي إليه الأمور في كلا البلدين.
في المقلب الآخر، لا يسعنا سوى لحظ الحالة اللبنانية التي تبدو عصية على الحراك المدني، باستثناء تحرك 14 آذار الذي أعقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، والذي أخفتت خطايا مطلقيه بريقه، مفوّتين على البلاد فرصة تاريخية يصعب تكرارها، كان من شأنها إحداث تغيير في بنية البلد السياسية والاجتماعية كما في موقعه ودوره في المنطقة. فعلى الرغم من الحروب والاحتلالات التي عاشها لبنان ولا يزال، وعلى الرغم من الاغتيالات والفراغات السياسية التي شهدها على مدى أكثر من عقد ونيف، وعلى الرغم من حالته الاقتصادية المتدهورة، وكثرة الانشقاقات التي نخرت نسيجه الاجتماعي، وعلى الرغم من التدخلات الأجنبية السافرة في شؤونه، والتي أدخلته في أتون المحاور الإقليمية والدولية، يبدو أن سياسة النأي بالنفس «الشكلية» التي اعتمدتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة قد انسحبت على الشعب، فنأى بدوره «فعلياً» عن مشكلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
قيل الكثير عن تميز لبنان في محيطه كواحة للحرية والديمقراطية، وقد يعيد البعض غياب الحراك المدني إلى قدرة الشعب على التغيير عبر الآليات الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة المعتمد. يغيب عن هؤلاء عاملان أساسيان يُفقدان هذه الآليات أي معنى لها وهما: الطائفية البنيوية في النظام والمجتمع اللبناني، والانقلاب الذي نجح فيه «حزب الله» وأحكم من خلال هذه الآليات نفسها قبضته على البلاد. حوّل العامل الأول الوطن إلى مساحة جغرافية لا أكثر تعيش فيها مجموعات متناحرة ومتنافسة تجمعها مصالح آنيّة وسريعة المردود، فإن تداعى المجتمع المدني سرعان ما يخنقه استبداد العامل الطائفي والتناحر المذهبي، وذهب العامل الثاني بالبلاد إلى محور غريب عن ماضيه وحاضره ولن يقوده في ولاءاته العابرة للحدود إلا إلى الهاوية. يبقى للأسف فقدان الشعور بالهوية وهشاشة الرابطة الوطنية هما أبرز مسببات غياب الحراك الشعبي المدني في لبنان، لمواجهة القضايا والمعضلات التي يعيشها من أصغرها إلى الكيانية منها.
الإفادة من أخطاء موجة الربيع العربي الأولى ضرورة، بدءاً من النخب المحلية التي تعود إليها مهمة تحصين حركة الشارع، مروراً بالأنظمة المستبدة التي لن تستطيع الاستمرار في اجترار نفسها، وصولاً إلى الغرب المصرّ على السياسات قصيرة النظر عبر غض النظر عن المستبدين متلطياً وراء الخوف من شياطين ورقية. | |
|