| | التاريخ: آذار ٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | لعدم نفي الثنائية اللبنانية ولكن لتجاوز مأزقها الثلاثي أيضاً - الأب صلاح أبوجوده اليسوعي | هل التعميم التأسيسيّ للكيان اللبنانيّ القائم على تلاقي المسيحيّة والإسلام على أرض لبنان الذي يكتسب إلى اليوم طابعًا نهائيًّا ومقدّسًا في المواقف الرسميّة السياسيّة والدينيّة، قادر على أن يفتح آفاقًا مستقبليّة واعدة للبنانيّين؟ من وجهة نظرٍ تاريخيّة، لم يؤدّ النظام السياسيّ الذي تمّت صياغة خصوصيّاته على نحوٍ يجسّد التعميم المذكور، وأهمّها الميثاق الوطنيّ والدستور اللبنانيّ والتوازن الطائفيّ على مختلف الصعد، بحيث يعكس الشراكة الوطنيّة الحقيقيّة، إلى تقدّم البلاد. وهذه النتيجة بحدّ ذاتها تكفي لوضع هذا التعميم موضع تساؤل، بصرف النظر عن دوافع العمل السياسيّ الداخليّ، والأساليب التي تُنسج حيالها والتي ملَّ المواطنون من تكرارها ومن نتائجها السلبيّة المتراكمة.
بالطبع، قد يبدو لبعضهم أنّ التفكير في موضوع التعميم التأسيسيّ وكفايته بمعزل عن دوافع العمل السياسيّ وأساليبه غير منطقيّ، إذ إنّ الأزمات المتتالية التي تعيشها البلاد يُلخِّص أسبابها قولُ الكاتب الرومانيّ كوينتُس إينيوس في القرن الثالث قبل المسيح: "عندما يتعلّق الأمر بالسلطة، فلا عهدَ ولا قسَمَ، وما من شيء مقدّس". والسلطة لا تقتصر هنا على الحقل السياسيّ، بل تشمل شهوتُها أيضًا المالَ والشهرة وغير ذلك من ميول داخل الإنسان لكسب النفوذ. فلو أظهر السياسيّون غيرةً على العمل بالمبادئ الدستوريّة والأحكام القانونيّة، وأعطوا المصلحة الوطنيّة والخير العامّ الأولويّة في سعيهم، لكانت البلاد بألف خير. قد يكون هذا الاعتراض صائبًا ولكن نسبيًّا. فماذا لو أنّ التعميم التأسيسيّ نفسه انطوى، من جهة، على مبادئ تخلق جوًّا لا يسهّل قيام سلطة تفرض سيادة القانون وتسهّل عمل المؤسّسات وتطوّرها؛ ومن جهة ثانية، على عناصر لا تلاقي قبولاً، أي لا يمكن تعميمها على الأقلّ بصفة ثابتة ودائمة؟ ألا يجب إذذاك البحث عن أسباب المرض بحدّ ذاته عوض التوقّف على عوارضه؟
لقد أثار البيان الختاميّ للقاء بكركي في 16 كانون الثاني المنصرم خطر صنع هويّة جديدة للبنان، أي خطر نفي التعميم التأسيسيّ. فقد جاء في الفقرة الثانية من البيان: "إنّ لبنان المجتمع والدولة نشأ من التلاقي الحضاريّ والإنسانيّ العميق بين المسيحيّين والمسلمين من أبنائه، وذلك منذ تلاقي هاتَين الديانتَين على أرضه. وهويّة لبنان التاريخيّة هذه التي تعكس كيانه الروحيّ العميق، هي التي طبعت دستوره، وليس لأحد أن يصنع للبنان هويّة جديدة مغايرة لحقيقته". وما جاء في البيان، يعكس ما قاله البطريرك الراعي في افتتاحه اللقاء عينه: "نشأت مخاوف حيال ما يُطرح في السرّ والعلن عن تغييرٍ في النظام والهويّة، وعن مؤتمر تأسيسيّ، وعن مثالثة في الحكم تضرب صيغة العيش المشترك المسيحيّ-الإسلاميّ المشبّه بنسرٍ ذي جناحَين". ولكن لماذا تنشأ مثل هذه الطروحات؟ وهل يكفي الردّ عليها بالتذكير بالتعميم التأسيسيّ والتشدّد فيه؟
ليست المسألةُ المطروحة في هذا الموضع صوابيّة التعميم التأسيسيّ أو خطأه، بل ملاءَمته أو كفايته؛ فالتعميم صائب في ظروف زمان نشأته، ومن دونه ما كان للبنان الدولة أن يكون. وبكلام آخر، يجب النظر في وظيفة هذا التعميم النهائيّة وحسب.
عندما عمِل ميشال شيحا على أسس دستور 1926، أراد تكريس لبنان نهائيًّا في حدوده الدوليّة، وإشراك جميع الطوائف في الحياة السياسيّة الوطنيّة على نحوٍ يحول دون استئثار الطائفتَين الأساسيَّتَين، المارونيّة والسنيّة، بالساحة السياسيّة، بالرغم من بقاء هاتَين الطائفتَين حينذاك نواة التلاقي الإسلاميّ المسيحيّ الصلبة في لبنان. ولم تكن خطوته البرغماتيّة نهائيّة، بل مرحليّة. فهو رأى في الترتيب الطائفيّ انطلاقًا من نواة التلاقي المارونيّ - السنيّ تسوية لا بدّ منها، إذ اعتبر أنّه من الأفضل أن يعيش لبنان أعرج من ألاّ يسير ألبتّة؛ فقد كان يعلم أنّ البلاد ستبقى لمدّة طويلة خاضعة لتسوية طائفيّة؛ ولكنّه لم يقطع الأمل في أن ينصهر اللبنانيّون مع الوقت بهويّتهم الوطنيّة الواحدة.
يُبيّن هذا التوجّه الواقعيّ أنّ التعميم التأسيسيّ والمقصود به التلاقي المارونيّ-السنيّ، يطرح فورًا مسألة المساواة بين سائر الطوائف؛ وهي مسألة يمكن أن تتحوّل إلى أزمات نظرًا إلى صعوبة التوصّل إلى تعريف وافٍ للمساواة في نظام طائفيّ. فضلاً عن ذلك، يشير إلى أنّ الحلّ الطائفيّ بحد ذاته ليس مثاليًّا، بل هو بالحريّ حلّ "أعرج"، ولكنّه أفضل ما يمكن التوصّل إليه. أمّا المثال فهو قيام هويّة وطنيّة واحدة لاطائفيّة. وبالتالي، إذا كان التعميم التأسيسيّ يكمن في أساس قيام لبنان، فهو يحتاج إلى أن يتطوّر باتّجاه اللاطائفيّة. أمّا جموده أو نهائيّته كما بلغت الأمور مع تكريس الميثاق الوطنيّ، فيعني تكريس لبنان "الأعرج" كيانيًّا ووظيفيًّا. فمن الناحية الكيانيّة، يبقى ثمّة التباس بشأن هويّة لبنان ودوره في محيطه، أي في طريقة فهم اللبنانيّين وطنهم وانتمائهم إليه ومصلحتهم الوطنيّة؛ ومن الناحية الوظيفيّة، خضعت آليّات الحكم للحسابات الطائفيّة وتشعّباتها المعقّدة التي نرى نتائجها المأسويّة اليوم.
وفي الواقع، إذا كان التعميم التأسيسيّ قد أعطى نتائج إيجابيّة في استقلال لبنان، فإنّ عدم كفايته لمواكبة التطوّرات لم تفقده وظيفته، بل بموجب منطقه نفسه فرضت تغييرًا على ثنائيّته. ولا يخفى على أحد أنّ بوادر هذا التغيير ظهرت في أواخر العام 1959 مع بروز دور الإمام موسى الصدر الذي رفع شعار المطالبة بحقوق الشيعة المغبونة في الدولة، مع المحافظة على مقوّماتها. ومن ثمّ، تابع الإمام محمّد مهدي شمس الدين نهج سلفه، فطالب بتحقيق العدالة الاجتماعيّة والحفاظ على تنوّع مجتمع البلاد. وفي كتابه "الوصايا"، يمكن القول إنّه التحق فعليًّا بروح التعميم التأسيسيّ ولكن ليس بثنائيّته التاريخيّة، إذ رأى ضرورة التخلّي عن المناداة بإلغاء الطائفيّة السياسيّة والاكباب على إصلاح النظام المنبثق منها، والتمسّك باستقلال الكيان اللبنانيّ ونهائيّته. وممّا لا شكّ فيه أنّ توجّهات حزب الله الذي يرفع شعارات الثورة الإسلاميّة، أدخلت عاملاً جديدًا على مسألة التعميم التأسيسيّ يزيدها تعقيدًا. فمسؤولو الحزب يكرّرون منذ سنوات طويلة أنّ لبنان لا يقوم إلاّ على الشراكة، ولا يمكن أحدًا أن ينفرد بحكمه، مع إبقائهم على الجمهوريّة الإسلاميّة شعارًا وخيارًا، من دون أن تُفرض على اللبنانيّين بالقوّة.
في ضوء ما تقدّم، يتّضح أنّ التمسّك بالتعميم التأسيسيّ في صيغته الأصليّة يشبه موقف دفاع عن النفس من شأنه أن يزيد النزعة إلى الانغلاق الطائفيّ بل المذهبيّ، مع ما ينجم عنه من تعميمات مبسّطة وصور منمّطة وأحكام مسبّقة على "الآخرين"، وقمعٍ متزايد للفرد الذي يجد نفسه أسيرَ مذهبه رغمًا عنه، ويؤسِّس لقيام مطالبات "بمرابعة" و"بمخامسة"...تبعًا لتطوّر الظروف المحليّة والإقليميّة وانعكاسها لصالح هذه الطائفة أو تلك.
ليس من مخرجٍ سليم من هذا المأزق إلاّ بإعادة النظر في التعميم التأسيسيّ، بحيث لا تُنفَى ثنائيّته التاريخيّة ودورها في قيام دولة لبنان المستقلّ، ولكن تُرسم طرق تجاوزها، ليس بمعنى أن تُخلق ديناميّة تُشرّعها على مثالثة هي أمر واقع، ومن ثمّ على مرابعة محتملة وهكذا دواليك، بل بمعنى فكّ رباطها بالخلفيّة الدينيّة الطائفيّة، وبالتالي تحرير الخطاب الديموقراطيّ تدريجيًّا من العامل الدينيّ المصطبغ بالطائفيّة، وهو عامل يجرّد الديموقراطيّة من مضمونها.
وإذا كان هذا "الفكّ" المرجوّ يُعطي التعميم التأسيسيّ مع الوقت قيمته الحقيقيّة وسموّه، إذ يُظهر قدرته على تجاوز نفسه ومعه تجاوز حالة لبنان "الأعرج"، فهو أيضًا يحرّر الإيمان نفسه من وطأة الطائفيّة، ويحرّر رسالة لبنان في محيطه؛ هذا المحيط الذي يتوق إلى الديموقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان.
أستاذ في جامعة القديس يوسف | |
|